لم يعرف اللبنانيون الدولة برغم أنهم طالما سمعوا عنها وعن بنائها وإعادة بنائها، وعن الذين تعاقبوا على حكمها سواء في عهد “دولة الاستقلال” او في عهد “استقلال الدولة” أو في عهد “استقلال الحكم عن الدولة” أو “استقلال الدولة عن الشعب” أو “استقلال الشعب عن الدولة”!
كذلك فقد عرف اللبنانيون العديد من “أصحاب الدولة”، ورأوهم يتصرفون فيها تصرف المالك بملكه، وربما لهذا لم يعرفوا “الدولة”.
ظلت المعرفة بالدولة “سماعية” أو “نظرية”، أو عبر “أصحابها” الذين كانوا يلخصون الدولة في الحكم والحكم في أشخاصهم وأشخاصهم في أغراضهم وأول أغراضهم… إلغاء الدولة، أو بالأحرى منع قيامها أصلاً!
عرف اللبنانيون “الزعماء”، وعرفوا “الأقطاب” وعرفوا “إنصاف الألهة” الذين كانوا يمتطون “الدولة” ويستقوون بها على “الجمهور” كما على الخصوم الطامعين بوراثتهم أو بأخذ مواقعهم وامتيازاتهم “الرسمية”!
ولأن الزعماء أو الأقطاب أو أصحاب الدولة هم في الغالب الأعم رموز انتعاش الغريزة الطائفية أو التعبير عن الصحوة المذهبية، فلقد كانت لهم حصانة لم تتمتع بها الدولة في أي يوم.
كانوا – بطوائفيتهم – أقوى من الدولة بما هي الأم لمؤسسات المجتمع المدني،
لذا كانوا كثيراً ما يصطدمون بالدولة ويتحدونها ويتطاولون عليها فتكون النتيجة أن تتراجع الدولة ويزداد وهج هؤلاء الزعماء وتتأكد أكثر فأكثر “شرعية” توظيفهم لها لتحقيق مطامحهم وتوكيد منزلتهم العليا والمنزلة الدنيا للدولة اليتيمة!
فالدولة لا تستطيع أن تكون طائفية أو مذهبية،
فتصور كيف يبني هؤلاء الطائفيون والمذهبيون “الدولة”،
إن كل واحد منهم يبني بحجارة “الدولة” دولته الخاصة، ثم يطبق على الناس قانونه الخاص باعتباره القانون العام المرعي الإجراء!
وبين “دول” أصحاب الدولة تندثر “الدولة” وتذهب ممتلكاتها ومؤسساتها وإداراتها ومواردها (وهذا هو الأهم) نهباً “مشروعاً” ومقدساً كحق الإرث لأصحاب الدولة: الأقوى فالأقل قوة،
إذا اتفق أصحاب الدولة ضاعت الدولة غنائم على المتفقين الممتازين!
وإذا اختلف أصحاب الدولة تمزقت الدولة إرباً يتناتشها الأقوياء، بينما “الشعب” يدفع الضريبة صاغراً!
بين الحين والآخر، يتوصل “الزعماء” إلى صيغة مبتدعة للوفاق الوطني، فيقررون ويتعهدون “للشعب” بأنهم سيعضون على الجراح (؟!) وسيتعالون على الأحقاد وسيعكفون – أخيراً – على إعادة بناء الدولة،
لكن الصيغة الجديدة سرعان ما تهتز وقد تتهاوى عند طرح أول قائمة بالتعيينات الجديدة أو عند “الحركة الدبلوماسية” التي لا بد أن تتضمن تبديلاً لمواقع بعض السفراء أو ممارسة لعبة الكراسي الموسيقية بين المحظيين والمشمولين بالرعاية في العواصم الممتازة!
إنها “دولة ” يسقطها الخلاف على “رئيس مصلحة”،
مهما علا شأن الدولة فلا يمكن أن تكون أهم من “الرئيس”، أما “المصلحة” فهي فوق الفوق،
فكيف إذا ما اصطدمت الدولة المسكينة بالرئيس القوي وبالمصلحة المقدسة!
… وكيف يمكن أن تكون الدولة أقوى من صاحبها؟! أليست هي “بعضه”؟! أليست هي “تابعة” له يمارس عليها حق “السيادة” مطلقة بغير قيد؟!
ما رأيكم في مؤتمر لأصحاب الدولة من أجل إلزامهم بصيغة اتفاق على كيفية “أكل الدولة” من دون التعرض لسوء الهضم أو سوء الفهم أو سوء الظن بالشعب المسكين، ومن ثم اتهامه بتسميم العلاقات بين الأخوة – الأعداء الذين لا يعرفون كيف يحكموننا؟!
خلاف عشائري:
صار خبر ضرب العراق، من الجو أو من البحر أو ربما من البر، معلماً ثابتاً من نشرات الأخبار اليومية،
صار عادياً لا يثير غضباً ولا يهز نائماً، بل لعله لم يعد “خبراً”.
صار كمثل الاعتداء الإسرائيلي اليومي على لبنان، مثلاً،
لم تعد إهانة العربي، أو امتهان “سيادة” الدولة العربية، “حدثاً” له ما بعده، يتخوف مقترفه من النتائج “الوخيمة”!
ولقد نجحت الولايات المتحدة الأميركية في استغلال “عبقرية” صدام حسين بحيث نزعت عن أعمالها الحربية ضد شعب عربي طابع الغزو أو الاعتداء المسلح وممارسة سياسة استعمارية مكشوفة!
صار خلاف جورج بوش – صدام حسين أشبه ما يكون بنزاع بين عشيرتين يضيع جوهره في تلافيف الاختلاف في الأمزجة بين “الزعيمين”!
وها هو “الشيخ” الجديد للعشيرة الأميركية، بيل كلينتون، يكمل المسيرة، ويقتفي خطوات السلف الصالح، مؤكداً أنه ليس مستعداً للتفريط بالتراث المقدس الذي خلفه الشيخ السابق، فهو لا يقل عنه حرصاً على مصالح العشيرة بل إنه الأحرص، ثم إنه الأقوى وبالبرهان الساطع!
الصبر والإيمان
إسحق رابين عنيد،
وبيل كلينتون يحترم في صديقه وحليفه هذه الميزة الخارقة،
لذا فهو لن يعانده، ولن يحاول إجباره على تغيير قراره بحق المقتلعين من أرضهم في فلسطين، برغم أنه لا يوافقه عليه!
ولأن بيل كلينتون هو الإمبراطور فله القدرة على تعطيل مجلس الأمن وشله عن اتخاذ أي قرار يمكن أن يشكل “هزيمة” للحليف الإسرائيلي القوي.
ثم إن رابين لا يفعل عملياً، إلا بعض ما كان يفعله جورج بوش ويستمر في إنجازه بيل كلينتون: إنه يطرب العرب.
والعرب، سواء في فلسطين أو في العراق أو في لبنان، أو في أية أرض تحمل هويتهم، ليسوا أكثر من حقل تجارب لإثبات أن قدرة الإنسان على التحمل بلا حدود!
إنهم مخلوقات وظيفتها امتحان قدرة الضارقب الذي يمتحن ليس فقط قوة تحملها بل أيضاً قوة إيمانها!
والحمد الله على نعمة الصبر والإيمان، فهي كل ما تبقى للعرب من حقوق الإنسان!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان