في الذكرى نفتقد حتى ذكريات ما قبل الحرب القذرة التي تبدأ اليوم عامها الثاني عشر وقد غيبتنا جميعاً: مشروع وطن ودولة، وشعباً والمؤسسات، الرسمية منها والسياسية والنقابية والأهلية عموماً، وصولاً إلى الجمعيات الخيرية!
لم يتبق بعد كل شيء إلا العشائر الطائفية أو المذهبية المسلحة وجمعيات دفن الأحياء وخطب المقابر ومجالس التبريك والعزاء. وبحر من اليأس بلا شاطئ ولا قرار.
لقد دار الفلك دورة كاملة، معطياً لكل طرف الفرصة لتحقيق وهم النصر المستحيل، ثم ها هي الأطراف جميعاً تنهي السنة الحادية عشرة وليس بينها رابح واحد… حتى أولئك الذين تصرفوا وكأن خسارة البلاد وشعبها يمكن أن تعود عليهم بمكسب ما، ولو مؤقت، أو بمجد ما ولو عبر بحر من الدم والمآسي والأخطار المصيرية!
فصورة لبنان اليوم أكره من أن يستطيع “الزعماء” ادعاء المسؤولية عن خلقها واستمرارها،
أما صورة هؤلاء “الزعماء” فأبأس من أن يقبل شعب على نفسه تهمة التورط في اختيارهم وفي تسليمهم مصيره ومستقبل بلاده، بل لعله يرى فيهم الآن العقبة الكاداء المانعة وصوله إلى غد مختلف عن حاضره الكالح، فكيف بالغد الأفضل؟!
فالزعيم الآن هو ذلك المدرب الناجح في ركوب الغول الطائفي وتوظيفه لالتهام الآخرين جميعاً، داخل طائفته وخارجها، الطامحين إلى انتشال حلم الوطن من قلب المحنة، والقابلين بقانون الصراع السياسي ومبدأ البقاء للأفضل.
لقد تهاوت الادعاءات والأوهام جميعاً ومعها الشعارات البراقة التي احتمى بها كل طرف وهو يدخل الحرب “للتحرير” أو “للإصلاح والتطهير” أو لكي يمنع الفرز الطائفي والتهجير وتفتيت وحدة البلاد وتوزيع أجزائها كانتونات على أمراء الطوائف.
كلهم الآن زعماء طوائف، بل هم الأكثر طائفية بين قيادات طوائفهم، أحزابهم أسماء حركية للطوائف، بل وللعنصرية الطائفية، وميليشياتهم هي الجيوش الانكشارية تعيش بحرب المنافع وعليها: تفرض الخوة، تجبي الجزية، تستبيح الحرام والحرمات، تعطي “الزعيم” حصته ثم تقتسم في ما بينها الباقي… وسبحان الحي الباقي!
لا قضية لأي منهم غير ذاته… وصورة الوطن، ناهيك بالدولة، غائبة عن أذهان الجميع، بل هي خصم الجميع يتلاقون على طمسها وإخفائها واغتيالها ثم يبررون وجودهم واستمرارهم بالحاجة إلى “سلطة ما” في غياب “السلطة الشرعية” تنظم شؤون الناس وتمنع اقتتالهم اليومي بغير ما هدف!
والكل في هذا سواء، من يقتعد قمة “السلطة الشرعية” ومن هو خارج على كل سلطة والقائل إنه مفوض من قبل السماء مباشرة!
فرئيس الجمهورية خاض حروباً عدة، وسيخوض المزيد من الحروب بعد، من أجل أن يتم الاعتراف به زعيماً أوحد للميليشيا المارونية التي كانت ذات يوم حزباً سياسياً ببرنامج إصلاحي، نوعاً ما، تحت لافتة “الكتائب”.
وهو يطالب بحصته ودوره ليس بوصفه رئيس الدولة وحامي دستورها وأرض الوطن وكرامته وسيادته، بل بوصفه زعيم الميليشيا الأقوى من ميليشيا سليمان فرنجية وكميل شمعون وايلي حبيقة (وسمير جعجع من بعد)، بين الموارنة.
وإحدى ذرائع الهجمة على الاتفاق الثلاثي كان مصدرها إصرار أمين الجميل على أن يكون هو بالذات وليس غيره ممثل الميليشيا المسيحية المسلحة في “الاتفاق” مع الميليشيات الشيعية المسلحة بقيادة نبيه بري والميليشيات الدرزية المسلحة بقيادة وليد جنبلاط،
والمأساة التي عاشها حزب الكتائب حتى دمرته تدميراً سرعان ما عاشتها الأحزاب الأخرى التي هي من الطبيعة عينها… فلقد كانت الكتائب حزباً لبنانياً بغلبة مسيحية ساحقة، وقيادة مارونية مطلقة، لكن غرقها في المستنقع الطائفي حوّلها من حزب لبناني إلى ميليشيا مارونية صريحة، قيادتها لآل الجميل حصراً، فإذا ما اعترض معترض أوقف إلى الجدار وأعدم رمياً بالرصاص، لاسيما إذا كان أرثوذكسياَ.
صارت الطائفة هي الأساس، ثم صار ممثل الطائفة وقائدها هو القضية: الحزب حزبه وحده، فمن خرج عليه عومل معاملة الخائن أو المرتد، وصار ممكناً بل وواجباً أن يضرب الطائفي الحزبي ويسحقه سحقاً، ففي الحروب لا مجال للفلسفة وترف الديموقراطية الداخلية!! وليس بالمصادفة أن “قائد” أي “محور”، في أي تنظيم ، يتقدم على قيادات الحزب التاريخية جميعاً وهو الذي يعطيها – حتى هي – الأمان والشهادة بالوطنية والالتزام والانضباط الحزبي!
ولهذا ظلت أكثرية اللبنانيين الساحقة خارج الأحزاب، حتى عندما تحكمت هذه الأحزاب بالناس جميعاً باعتبارها أحزاب الطوائف.
ولهذا أيضاً أخرج من قيادات هذه الأحزاب أو خرج “راضياً” العديد من أصحاب الدور، تاريخياً، وكل من له علاقة بالفكر أو الدعوة أو الكتابة أو بالنضال السياسي للحزب، في فترة ما قبل الحرب… ومن بقي فرض عليه أن يلتحق بالقياديين الجدد الذين لم يعرفوا لبنان الموحد ولا العمل السياسي ولا الفكر السياسي بالمطلق، وحجتهم إنهم ولدوا في الحرب وتربوا في أحضانها وإنهم يقودون لأنهم هو الذين قاتلوا ويقاتلون؟!
ولكن، لماذا تراه القتال؟ من أجل من ، ومن أجل ماذا، وكيف ومتى يكون النصر وعلى من؟!
إذا ما توافرت أجوبة على مثل هذه الأسئلة المربكة فلسوف تفتقد فيها السياسة عموماً وشعارات الحزب المعني على وجه التحديد… ولسوف يصدمك الفحيح الطائفي البغيض وهو فحيح يعد بحرب مفتوحة حتى تبيد بعض الطوائف بعضها الآخر، أو بمعنى أدق حتى يبيد الطائفيون غير الطائفيين، من عباد الله المؤمنين بالوطن والأمة والأرض والقضية وحق الإنسان في أن يكون إنساناً ولا حشاً أعمى بالحقد أو بالتعصب وضيق الأفق والانغلاق والجهل وسائر أمراض التخلف المقيم؟!
ولأن هذه القيادات الطائفية تصادر الشعارات الوطنية وإطارات العمل الوطني فهي تكريس العجز المطلق عن تغيير الواقع القائم وتجعله أشبه بالقدر الذي لا راد له.
فهي طائفية التوجه، ثم إنها أسيرة محيطها المتعصب والمستثار والمنتفع بسيادة مناخ التهييج الطائفية لتمرير ارتكاباته وتجاوزاته وتشبيحاته وخواته المفروضة تارة باسم كرامة الطائفة، وطوراً بحجة توفير ضرورات المجهود الحربي اللازم لضمان سلامة الطائفة…
ولأنها طائفية فهي معادية بالضرورة لأي توجه وطني، لأن مثل هذا التوجه يلغي موقعها الممتاز وحقها بالقيادة.
ولكنها بحاجة إلى تمويه نفسها بالشعارات الوطنية، بدءاً بالتحرير الشامل وانتهاء بإعادة المهجرين، ومن هنا فهي تستهلك الأطر المحتملة لأي عمل وطني جدي (المشروع الوطني القادر على استيعاب اللبنانيين جميعاً، بطموحاتهم ومخاوفهم وشوقهم إلى الاصلاح والعدالة، الجبهات الوطنية التي يؤهلها برنامجها المعلن لقيادة اللبنانيين جميعاً والإفادة من طاقاتهم جميعاً لبناء مشروع الوطن ودولته القوية والعادلة والتي يجد الناس أنفسهم فيها متساوين في الحقوق والواجبات الخ…)
وهكذا يتساقط كل ما هو مضيء وواعد ولا تبقى في الساحة غير الغيلان الطائفية العطشى إلى مزيد من الدم والمكاسب التي تؤمن استمرار سيادتها على الساحة…
من هنا وصولنا بعد 11 سنة من الحروب المتعددة الأسماء والهويات والشعارات إلى الواقع المفجع الآتي:
1 – لا قضية قومية في الوطن الصغير الذي كان الداعية القومي الأول، بأحزابه وأنديته وشارعه القومي – الوطني وصحفه ومنابره التي تعكس هموم الوطن العربي الكبير وطموحاته العظيمة إلى الوحدة والتقدم والحرية في ما بين المحيط والخليج،
على العكس تماماً، صار الفكر القومي مضطهداً ومرذولاً ومرفوضاً ومحاصراً بالدعوة الطائفية التي تبرر التلاقي مع العدو الإسرائيلي، أو بالحركات الدينية التي تنظر إلى القومية وكأنها بدعة من صنع الاستمعار والشيطان الأعظم.
2 – لا قضية وطنية واحدة وموحدة، فتحرير الجنوب مثلاً، ليس بين هموم “الجبهة اللبنانية” التي لا تنكر اعتمادها العميل الإسرائيلي أنطوان لحد وتبنيها له، كذلك فهو ليس من الأولويات في البرامج المعلنة لأكثر من حزب سياسي وطني الاتجاه، على الأقل بالمعنى التاريخي.
3 – لا أحزاب سياسية فاعلة ومستقطبة وقادرة على الصمود والتصدي بجماهيرها كما ببرامها القومية والوطنية والتقدمية للموجات الطائفية التقسيمية بالضرورة، والملتقية موضوعياً مع أهداف المخطط الأميركي – الصهيوني للبنان والمنطقة العربية برمتها،
4 – ثم… لا دولة، ولا مؤسسات لهذه الدولة تجدد الأمل باستعادة وحدة البلاد والشعب، ولو بعد حين… فالميليشيات تقاسمت ما تيسر من خيرات الدولة ومؤسساتها، وإذا كان الجيش قد صار ميليشياً أخرى فإن أسرار المصرف المركزي متاحة لكل راغب أو قادر على الدفع أو على الأخذ، والبرقيات المشفرة لوزارة الخارجية مباحة لكل حامل سلاح، أما مواقف المخابرات الدولية فمعروضة على عربات بيع الخضار، وخزائن المصارف تفتح غب الطلب، وأرشيف مجلس النواب أو رئاسة الحكومة مثل موجودات ما كان يسمى دار الكتب الوطنية أو المتحف الوطني معروضة بالمزاد العلني الخ…
5 – لا مواطن، فممنوع عليك أن تعرف نفسك باسمك أو بمؤهلاتك، ولا حتى بانتمائك الطائفي، فالانتماء يكون لزعيم الطائفة – الحزب، الخارج عليه يبقى خارجاً والداخل في ولائه هو المولود وهو صاحب الحق في أن يكون له دور وموقع… ومخصصات محترمة!
لقد أخرج الاجتياح الإسرائيلي المقاومة الفلسطينية من لبنان، لكن أمراء الطوائف يريدون إخراج لبنان من دوره العربي بالمطلق، وأساساً من دوره في القضية الفلسطينية… أي إنهم يكملون ، موضوعياً، المهمة التي عجزت عن أدائها جيوش الاحتلال الصهيوني.
ولكم تصبح بيزنطية وعقيمة وسمجة تلك المجادلات حول عروبة لبنان، إذا ما انتبهنا إلى أن طرفيها (المسلم والمسيحي) غارقان في المستنقع الطائفي ذاته حتى الأذنين… والطائفي هنا كالطائفي هناك كلاهما معاد للعروبة، وكلاهما أقرب إلى إسرائيل منه إلى العرب وقضيتهم (قضيته) القومية.
كذلك، فالمحاولات مستمرة لضرب الدور السوري في لبنان وتشويهه، فمرة يصور وكأنه كلي القدرة، ومرة أخرى وكأنه كلي العجز وبالإمكان تجاهله تماماً أو تجاوزه بغير تخوف من نتائج اللعب عليه.
ومن أسف أن الكل يشترك في هذا الأمر، البعض من موقع الخصم، والبعض الآخر من موقع الحليف، والنتيجة واحدة في الحالين،
لكأنما يريدون إقناعنا (!!) بأن عروبة لبنان تكون بمعزل عن فلسطين وقضيتها المقدسة، أو بمعزل عن سوريا ودورها الطبيعي والحاسم في هذا البلد الأمين.
ناهيك بمن يحاول إقناعنا بأن الحل لا يكون إلا في العواصم الأجنبية البعيدة، سواء أكان قادتها سياسيين أم رجال دين واجتهاد.
والسؤال:
أما آن، بعد، أوان وقفة المراجعة والتأمل ونقد التجربة والذات في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه… إن كان ثمة ما يمكن إنقاذه فعلاً؟!
ألا تكفي كل هذه السنوات العجاف، المثقلة بالمآسي والكوارث والآلام والدمار الشامل وانسداد الأفق، لإقناعنا بأننا نسير في الطريق الخطأ التي لن توصلنا إلا إلى متاحة تليها متاحة حتى لا يتبقى منا أحد ومن بلادنا شيء؟!
لقد كانت مشكلتنا ذات يوم مع الخارج، كما يقول القائلون،
لكنها الآن على وجه التحديد مع الداخل وغيلان الطائفية التي تكاد تلتهم كل ما ينفعنا في يومنا وفي غدنا…
فماذا ننتظر قبل أن نواجه الواقع القائم بكل مرارته ومصاعبه الهائلة؟
ماذا تنتظر الأحزاب السياسية (أو ما تبقى منها)، وماذا تنتظر القيادات التي تحمّل نفسها قدراً من المسؤولية على المصير؟! وماذا ينتظر أي مواطن في أي بقعة من لبنان؟!
هل ننتظر الموت في السنة الثانية عشرة، أم نقتل الغيلان الهائجة قبل أن تقتلنا فتكون لنا حياة ويكون لنا وطن ما، ولو مهدم، يمكننا أن نعيد بناءه لنعيش فيه؟!
… والموت لن يوفر حتى أمراء الطوائف، إن كانوا لا يعلمون!
فمن يبدأ، إذن، ومتى، وأين، وكيف؟!
تلك هي أسئلة السنة الثانية عشرة للحرب القذرة التي تنتظر نهايتها مجيء “أبطال السلام” الموعودين،
وبرغم كل شيء فإن الفرصة ما تزال مفتوحة أمام أمراء الطوائف لأن يدخلوا التاريخ كصانعي السلام الصعب بدل أن يظلوا أبطال المذابح السهلة اللاغية للوطن ومواطنيه،
والبداية تكون في أن “نوحد” العدو، وفي أن نقاتله فعلاً، بالرصاص واللحم الحي والكلمة الواعية والتنظيم، والعدو واحد أحد، وهو ما يزال يحتل بعض أرضنا وبعض إرادتنا.
فهل تقوم ، أخيراً، “جبهة تحرير الأرض والإنسان في لبنان”،
أو هل يسمح لها أمراء الطوائف بأن تقوم، ولو بمشاركة من أراد منهم ممن لا يطمئن للنوم في حضن الغول الطائفي الذي رباه وغذاه ونماه حتى صار خطراً عليه كما على الآخرين؟!
وهل ما يزال بإمكاننا أن نحلم بأن يتلاقى الشمالي مع الجنوبي والجبلي مع ابن بيروت التي ألغوها كعاصمة وكنوارة للعرب والعروبة وكمنتدى فكري وثقافي وسياسي لا بديل له حتى إشعار آخر في هذه المنطقة من العالم؟!
هل يمكن أن تقوم جبهة المقاتلين ضد الحرب، وهي هي الجبهة المقاتلة من أجل الإنسان، ومن أجل عروبة لبنان، ومن أجل تحرير ما تبقى من الأرض المحتلة ومن الإرادة المحتلة؟!
… أم إنها أحلام وردية في عز الظهر؟!
ولكن الدنيا ربيع، والزهر يملأ جنبات الأرض جميعاً، وينبت حتى في المقابر، فلماذا نستسلم للموت العبثي الرخيص؟!
وإذا كان لا بد من الموت فلنقرر أين ولماذا ومن أجل ماذا نموت،
وليترك لنا أن نموت في الصح إذا كان ممنوعاً علينا أن نعيش في الصح، والصح هو الباقي، وكل ما عداه إلى زوال…
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان