أبشع من المجازر الوحشية التي تُرتكب يومياً في مسلسل دموي لا ينتهي في الجزائر، هو هذا العجز العربي المشين والمطلق عن محاولة، مجرد محاولة، التدخل أو التوسط أو الشفاعة أو التمني لوقف هذا النزف المريع الذي يُنهك الأمة جميعاً في حاضرها ومستقبلها.
فالجزائر المنتصرة بالثورة، وبثوارها المجاهدين، مطلع الستينيات، بدت وكأنها »هبة العروبة« بقدر ما تبدّت وكأنها »الجائزة العظمى« للعروبة في حينه.
ندر أن تجد عربياً من جيل الخمسينيات أو الستينيات لم يقدم بعض جهده، مهما كان متواضعاً، لثورة الجزائر. ولا تقع تحت حصر تلك النساء والفتيات اللاتي قدمن محابس الخطوبة أو الزواج أو الذهب المخبوء للأيام السود، دعماً لمجاهدي الجزائر.
بل ان الآلاف من الفتيات والنساء، في مختلف أقطار العرب، أمضين الليالي في حياكة الملابس الصوفية لثوار الأوراس.
كانت الجزائر قد احتلت مكانها الشرعي في القلب والوجدان والاهتمام اليومي، فالنصر فيها تأمين لمستقبل أفضل، وتعزيز للقدرة على التحرّر الكامل والتحرير الكامل للأرض والإنسان..
ومحاولة اغتيال الجزائر الجارية الآن، وبأيدي هذه »العصابات« التي لا يستطيع أحد نفي انتسابها، بشكل أو بآخر، إلى السلطة القائمة، أو تواطُئها معها، أو تساهل السلطة أو ربما عجزها عن مواجهتها، هي جريمة قومية موجهة ضد كل عربي في كل أرض عربية. ضد الرجال والنساء والأطفال. ضد فلسطين ولبنان وسوريا. ضد المغرب وتونس وليبيا. ضد مصر والسودان. ضد الخليج والسعودية واليمن.
أليس مستهجناً أن يتبرّع الأميركيون والأوروبيون والدوليون في قيادة الأمم المتحدة، بإعلان الاستعداد للتوسط أو ربما للتدخل، في حين لا يرفع حاكم عربي أو تنظيم سياسي عربي جدي، صوته، ويمد يده، ويحاول المساعدة بما يستطيع بداية في فهم ما يجري وفي تحديد »القوى« التي تهدر دم الجزائريين وتغتالهم جماعياً كل يوم؟!
هل يستطيع مسؤول عربي، أو هل هو معني بأن يستطيع، رسم خريطة لهذا الصراع الذي يصوَّر وكأنه تفجّر فجأة وبتدبير شيطاني، ولا يحمل في طياته أية خلفيات سياسية، أو أية أسباب اقتصادية واجتماعية؟!
ليست الشياطين هي التي تسفح دماء الجزائر والجزائريين.
بل هي المصالح، الأجنبية، كما مصالح أطراف أساسية في النظام.
لا يستطيع الحكم القائم ادّعاء البراءة، ونسبة الطوفان الدموي إلى مَن كان قائماً بالأمر قبله.. بل ان هذا الطوفان هو الذي جاء بالحكم القائم الآن. ولعل بعض »الأقوياء« من أركان هذا الحكم هم وراء التفجيرات الأولى التي أسالت الدم غزيراً، تمهيداً لأن يغدو طوفاناً.
لقد رفض الحكم وما زال يرفض الاعتراف بكل مَن هم خارجه من القوى الحية التي تمثل ثقلاً شعبياً وتعكس إرادة شرائح واسعة، لعلها الأكثرية من الجزائريين.
بدلاً من الحوار، لجأ الحكم إلى الرصاص، وإلى التزوير، وهو أخطر من الرصاص، ثم الى استيلاد تنظيمات وهمية لخداع الناس ومحاولة سحبهم من حيث أخذتهم قناعاتهم وثقتهم بالبرنامج المطروح.
الأخطر أن الحكم لجأ في مواجهة الأكثرية الى استيلاد ميليشيات تقاتل بالنيابة عنه، وتوفر له فرصة ادعاء الحياد والتبرؤ من الدم المراق.
على أن ذلك كله لم ينفع إلا في زيادة الدم المراق بحيث غدا طوفاناً..
لقد صدرت عن جبهة الإنقاذ الاسلامية أكثر من دعوة إلى الحوار، وكان من الضروري أن يسمع الحكم وأن يستجيب لو أنه يرغب في حل سريع ينقذ ما تبقى من الجزائر، (هذا إذا ما تساهلنا فلم نطالبه بأن يكون هو المبادر)..
وها هي الجبهة تعيد إطلاق النداء، وتخطو الخطوة الأولى في اتجاه الحكم مع أنها ضحيته..
لكن الحوار يحتاج إلى طرفين (على الأقل).
وما استمر غياب الحكم، بل تعطيله الحوار، فسيظل يتحمّل هو وهو وحده المسؤولية المباشرة والتاريخية عن المذابح التي جرت والتي تجري والتي ستجري في الجزائر.
ان السلام الوطني يحتاج إلى شجاعة لا يحتاجها القتل.
وليست المكابرة شجاعة. وليس ترك البلاد تفقد أهلها وثروتها ورصيدها العظيم ممارسة للمسؤولية.
إن الحكم مسؤولية، فمتى يمارس الأمين زروال مسؤولياته الوطنية؟
ومتى يشجعه القادة العرب، وبالتحديد القادر والمؤهل منهم، على فتح باب الحوار الوطني كخطوة لا بد منها لوقف المذبحة المرعبة؟!
إنها دعوة إلى إنقاذ الذات، وليست فقط دعوة لإنقاذ الجزائر، هبة العروبة وجائزتها العظمى.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان