بين صدمة التجرؤ على الهيبة، وبين الفوضى العارمة التي سبقت ورافقت اتخاذ القرار بالانتقام عبر إطلاق »النسر النبيل« لتحقيق »العدالة بغير حدود« في حرب مفتوحة بمدى الكون، افتقدت الولايات المتحدة الأميركية »الضابط السياسي« لتحركها الواسع من أجل إعادة توكيد هيمنتها الشاملة، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، وكذلك بنمط الحياة، على القرن الحادي والعشرين بكل مخلوقاته ومكوناته المادية والمعنوية.
توالت التهديدات والإنذارات عشوائياً، وأُطلقت اتهامات ظالمة وادعاءات متجنية شملت »كل« العرب والمسلمين، وسُرِّبت »قوائم سوداء« بأسماء دول تشكل ثلث العالم، وجهات ومنظمات بغير تدقيق.
سُجلت سقطات للرئيس الأميركي بعضها طريف إلى حد الإضحاك وبعضها الآخر سخيف بما لا يليق بأخطر رجل في العالم، لعل أشهرها توصيفه حربه ب»الصليبية«، أما أرخصها فتعهده للملك الأردني ثم تراجعه عن التعهد بطريقة غبية.
لُفِّقت اعترافات لمجهولين، واختُرعت وصايا للذين فجروا أنفسهم والطائرات بركابها والأبراج بمن فيهم من الموظفين، فوُضعت سلامة البشر جميعاً على كف عفريت.
ارتُجل تحالف بالأمر، بين الحلفاء أصلاً، ثم فتح الباب أمام أطراف ارتُئي استمالتها تأميناً لمصالح »الأخ الأكبر«، وأغريت أطراف بعيدة باحتمال ضمها إلى هذا النعيم إذا ما التزمت بأن »أميركا فوق الجميع«… وبالمقابل أُقفل التحالف أمام كثرة من الراغبين بالانتساب إلى »نادي الأقوياء« ولو بجدع أنوفهم!
صار لأميركا ألف لسان ولسان: واحد يهدد وآخر يطمئن، واحد ينذر بالويلات والثاني يهدئ من روع الخائفين، واحد ينافق المسلمين وواحد يحقر دولهم، واحد يتودد إلى العرب وآخر يقسمهم فئات ويكاد يتعهد لبعضهم بجنات صداقته وللبعض الآخر بجحيم انتقامه المهول… واحد يكاد يمنّيهم بالصفح عن ماضيهم »الإرهابي«، وآخر يستخرج من أرشيفه صفحات مطوية عفا الزمن على »أبطالها« فماتوا أو بدلوا آراءهم وأفكارهم أو أنهم »تابوا« بعدما شاخت ثوراتهم أو انطفأت جذوة الشباب فيهم أو أخذهم اليأس إلى التقاعد المبكر!
آخر النماذج الفاضحة للاضطراب في أعلى مراكز القرار هو التناقض العلني حول الموقف الأميركي من سوريا و»دورها« في هذه المرحلة الحساسة.
فنائب وزير الخارجية ريتشارد ارميتاج خلع قناع الدبلوماسي واستعار من اسمه رتبة ماريشال وأطلق تهديدا ينذر فيه سوريا »بعمل عسكري… إذا هي لم تستجب للمطالب الأميركية والغربية«… ولعله قد ضاق ذرعا بهذا الموقف الذي لم تتعب قيادة سوريا من الإلحاح عليه والقاضي بضرورة التفريق بين الارهاب، كجريمة ضد الانسانية، وبين المقاومة كحق مشروع للشعوب المقهورة بالاحتلال (كما في فلسطين)، وبين إرهاب الأفراد وإرهاب الدولة كالذي تمارسه اسرائيل بغير حدود.
أما الرئيس جورج دبليو بوش الذي لم يشتهر بالذكاء أو بدقة التعبير أو بالمعرفة بأحوال العالم، فقدحاول أن يستدرك »سقطة« دبلوماسيه الكبير بتطمين سوريا الى أنها ربما حتى إشعار آخر!! خارج دائرة غضبه العاصف وانتقامه الدموي!
ولعل الإدارة، برئيسها وسائر الكبار فيها، تمارس لعبة العصا والجزرة، مع الدول المشكوك في ولائها، ولكنها قد خصت العرب تحديدا بإهانات متعمدة!
أو لعلها قد بالغت في استهانتها بالعرب (فضلا عن المسلمين!!) الى حد أنها لم تعد تهتم بردود فعلهم على ما يصدر عنها… فسقطاتها السياسية أو التناقض في مواقفها لا يتبدى جليا إلا معهم، دولا ومنظمات (حتى لا ننسى »حزب الله« و»حماس« و»الجهاد الاسلامي«…)، ويتجلى معه مدى التأثير الاسرائيلي على هذه الإدارة ورئيسها الفذ الذي تكرم فنطق كلمة »دولة« لفلسطين، تاركا لخيال المتأمركين من العرب أن يرسم حدود أرضها وسيادتها وعدد سكانها ومعابر التواصل بين أشقائهم في مدنهم وقراهم المقطعة الأوصال بالمستعمرات الأكثر منها سكانا (!!) والمدججة بوحوش المستوطنين وفي أيديهم أسلحة الجيش الاسرائيلي كافة!
في هذا السياق يمكن إدراج »الإهانة التكريمية« التي وجهتها الإدارة، مرتين، الى الأمير الوليد بن طلال بن عبد العزيز آل سعود: مرة بلسان عمدة نيويورك الصهيوني في عواطفه المعلنة بأكثر مما تطلب اسرائيل، ومرة أخرى بلسان الناطق باسم الخارجية الأميركية.
كان الأمير رجل الأعمال الذي يعتبر من أكبر المستثمرين العرب في الشركات والمؤسسات الأميركية، والذي تربط أسرته ومملكته أوثق العلاقات (والمصالح) بالولايات المتحدة، قد زار نيويورك، وطاف بصحبة عمدتها رودولف جولياني في أنقاض برجيها الشهيرين (حيث مقر الكثير من الشركات المساهم فيها)، وأبدى تأثره الشديد، ثم عبّر عن تعاطفه بتبرع سخي بقيمة عشرة ملايين دولار (وهو يمثل ضعفي ما تبرع به للبنان إثر الضربة الاسرائيلية لمحطات الكهرباء فيه قبل أقل من سنتين..)…
ولقد قبل جولياني التبرع شاكرا… لكنه عاد فرفضه، بعد ساعتين، وبعدما سمع أو قرأ تصريح الوليد بن طلال الذي قال فيه »ان على الولايات المتحدة ان تعيد النظر في سياساتها في الشرق الأوسط، وأن تتخذ موقفاً أكثر توازناً إزاء القضية الفلسطينية. ان اشقاءنا الفلسطينيين ما زالوا يتعرضون للقتل على أيدي الإسرائيليين بينما العالم يدير خده الآخر«!
أما ريتشارد باوتشر فقد أسعفته دبلوماسيته بالقول ان تصريحات الأمير غير مناسبة!!
على ان جولياني ذاته، ومعه الناطق باسم الخارجية الأميركية، لم يجدا غضاضة في قبول التبرع الذي قدمه أمير قطر (3 ملايين دولار) قبل أسبوع…
فالشرط لقبول المال العربي (ذلك الذي لا يؤخذ غصباً) ألا يربط بأي شرط سياسي، وأن يكون تعبيراً عن ولاء مطلق وغير مشروط وبقصد توكيد الخضوع البديهي »للسيد«، بغير منة، وبغير ان يطلب جزاءً أو شكورا. والنعمة ان يتفضل السيد فيتكرم ويقبل!
أكثر من هذا: لا يكفي المال وحده تعبيراً عن الولاء، بل لا بد في هذه اللحظة المصيرية من توكيد على الطاعة العمياء والالتزام الصارم بتعليمات أو توجيهات جبار الكون… وهو ما عبّر عنه بطريقة وقحة وزير خارجية قطر حين أظهر شماتته بوزراء الخارجية العرب والمسلمين المحتشدين في ضيافة بلاده لمؤتمرهم الطارئ، و»عايرهم« بأن أحداً منهم لم يطرح مسألة »المكتب الإسرائيلي في الدوحة«… فضلاً عن زياراته السرية أو العلنية لتل أبيب، فوق سجادة حمراء من الدم الفلسطيني!
على ان مما يجبر الخاطر أن الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، ترك احتفاله بمكافأته على عظيم خدماته بمنحه جائزة نوبل للسلام، ليعبّر عن أسفه لرفض عمدة نيويورك تبرع الوليد بن طلال، مشيراً الى انه كان يجب ان يقبله.
ومع ان صوت كوفي أنان »خافت لا يكاد يسمع«، فقد وجده السفير الأميركي السابق لدى المنظمة الدولية، هولبروك، »أفضل أمين عام في تاريخ الأمم المتحدة من دون منازع«… ولعل هذه الشهادة تفضح دور هذا الموظف العتيق المتحدر من قبيلة فانتي في غانا، والذي لم يكن أي يوم صاحب قرار في أي شأن، والذي ألحق الأمم المتحدة بإدارة الخارجية الأميركية كما لم تكن يوماً في تاريخها، كما تفضح حيثيات القرار بمنحه مع المنظمة التي انتقلت إلى الجبهة المواجهة للشعوب بدل ان تكون حاضنة نضالاتها وملاذها وملجأها، جائزة نوبل للسلام.
على ان سفير الهند في الأمم المتحدة كالش شارما أنصف أنان بقوله: »ان الجائزة ستجعل منه شخصية عالمية شهيرة مثل نجوم الروك«!
في أي حال وبعدما أعطيت جائزة نوبل للسلام، عام 1994، لكل من اسحق رابين وشيمون بيريز ومعهما ياسر عرفات فقد افتضح أمر طبيعتها السياسية… أما جائزة نوبل للآداب فقد فضحها منحها بالأمس لأحد اعدى اعداء العروبة والإسلام، من موقع الأديب، ف. اس. نايبول.
التهديد والاهانات، للعرب، الذين تبرعت بعض حكوماتهم بالانتساب الى تحالف ليس لهم موقع فيه، ولعله في جوهره يتضمن قدراً عظيماً من العدائية تجاههم.
حتى التبرع العربي مرفوض من طرف ناهبي الثروة العربية وحماة اسوأ الحكام العرب وأشدهم عداءً للديموقراطية وحقوق الانسان.
أما ضروب التكريم والجوائز السخية فتخصص للذين لم يقولوا »لا« يوماً للسيد الاميركي، وسوّقوا له »حروبه«، وشرعنوا له حملاته العسكرية الظالمة على شعب مستضعف ومعزول، وخوّلوه صلاحية »محاكم التفتيش« ضد الدول والشعوب والافراد جميعاً… او لم يكتبوا »ادباً« إلا في تحقير الاسلام والمسلمين، والترفع عن »تحقير العرب« كالسير الانكليزي المتحدر من بلاد عظيمة تدعى ترينيداد ف. اس. نايبول!
مع هذا سيظل العرب، بوصفهم ضحايا الارهاب من قبل ومن بعد، ضد قتل الابرياء في أي مكان او زمان، وسيظلون يجهرون بتعاطفهم مع ضحايا التفجيرت في الولايات المتحدة، كما مع شعب أفغانستان الذي لا يجد خبز يومه ولا يجد جرحاه الكثر المستشفى والطبيب والدواء ويكاد قتلاه لا يجدون من يدفنهم.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان