حتى لعابر سبيل في الغرب مثلي، توقف في باريس في طريقه إلى واشنطن، يمكن التنبّه إلى تحول سلبي خطير في موقف الرأي العام الغربي من انتفاضة الأقصى، واستطرادا من مشروعية النضال الفلسطيني، وصولاً إلى النظرة إلى شارون الذي تكاد تطمس ملامح السفاح فيه لتحل محلها ملامح »الحكيم« إن لم نقل ملامح الضحية!
لكأنما كان ينتظر كل أولئك المحرجين بصور الضحايا الفلسطينيين، من محمد الدرة إلى إيمان حجو الطفلة ذات الثلاثة شهور، خطأً فلسطينياً واحداً، مجرد خطأ تكتيكي ليريحوا »ضمائرهم« المثقلة بالجرائم الإسرائيلية غير المبررة ضد المدنيين، وليستعيدوا نبرة الهجوم وموقع المدعي العام بل الديان لإنزال أقصى العقوبات بهؤلاء السفاحين الفلسطينيين الذين لا يقاتلون بل يقتلون، والذين هم بلا قضية بل مجرد عنصريين يطاردون اليهود كيهود لإبادتهم سواء في السوق أم في المسابح أم في الأندية الليلية.
لقد جاءت عملية الاستشهادي الفلسطيني في تل أبيب إنقاذاً للذين في الغرب كانوا يعانون حرجاً شديداً في الدفاع عن حرب الإبادة التي شنها الجيش الإسرائيلي بأسلحته كافة، بما فيها الطائرات الحربية الأميركية أف 16، ومعه المستوطنون بل المستعمرون الجدد الذين لا تتوقف وحشيتهم عند حد.
ولعل ثمة مَن نصح شارون بأن يضبط شغفه بالدم وأن يستغل هذا »الخطأ التكتيكي الفلسطيني«، ويترك لحلفائه الكبار أن يستثمروه سياسياً وإلى أقصى حد، بما يعيد توزيع الأدوار فيصير الإسرائيلي هو الضحية والفلسطيني هو القاتل، مفسحين أمامه مجال الربح مرتين: مرة في السياسة بحيث يكسب تعاطف الرأي العام العالمي، ومرة أخرى على الصعيد العسكري بإظهار أي هجوم مقبل، ومهما بلغت قسوته، وكأنه مجرد رد أو دفاع مشروع عن النفس ومن موقع المعتدى عليه!
وهكذا استعادت المنابر السياسية والإعلامية المؤيدة لإسرائيل حرية حركتها، واندفعت تقدم سيلاً من التحقيقات والريبورتاجات والصور الإنسانية المؤثرة، لأولئك الفتية المدنيين العزل الذين قصدوا الشاطئ وبعض مراكز اللهو في تل أبيب، عشية العطلة، وحيث يكون الدخول مجانياً، لأنهم لا يملكون ثمن التذاكر في الأيام العادية.
وليست مبالغة أن يقال إن أسماء العديد من الذين سقطوا في العملية الاستشهادية، وكلهم من المستقدمين الروس الذين استقدمتهم إسرائيل كقوة عمل إضافية، استقرت الآن في منازل وفي وجدان العديد من الأوروبيين والأميركيين، على مستوى القيادات السياسية كاستثمار مجزٍ، وعلى مستوى العامة كإعادة تظهير لصورة اليهودي المضطهد والملاحق بالموت بسبب من يهوديته ليس إلا!
اختفت من الصحف الغربية الرصينة لهجة التعاطف مع الشعب الفلسطيني المحروم من أبسط حقوقه الإنسانية، فضلاً عن حقه في أرضه، وفي إقامة »دويلة« ولو تابعة، وفي بطن إسرائيل، وأعيد طرح فرضيات ونظريات كانت قد سحبت من التداول منذ زمن بعيد بفضل تضحيات الفلسطينيين، بينها التساؤل عن »شرعية« سلطتهم، وعن حقهم في دولة ولو داخل إسرائيل.
استعيدت حكاية العرض السخي والتاريخي الذي قدمه إيهود باراك لعرفات بتزكية من الرئيس الأميركي (السابق) بيل كلينتون (!!) والذي لم تحسن القيادة الفلسطينية الرد عليه بتفنيده وإظهار زيفه واستحالة تنفيذه، ليعاد تحميل هذه القيادة مسؤولية اجتياح التطرف »للمجتمع الإسرائيلي« ووصول شارون إلى السلطة..
ثم، وهنا بيت القصيد، أعيد تركيب منطق متهالك ولكنه معزز ببعض الوقائع المزورة، وبالارتباك السياسي، أو بتهافت القيادة الفلسطينية وارتباكها في مواجهة الحملة على عملية تل أبيب، بغير أن ننسى »الانسحاب« العربي بداعي الحرج… وخلاصة هذا المنطق أن إسرائيل المهددة في وجودها تدافع عن نفسها بعدما رفض الفلسطينيون كل عروضها للسلام، وأن شارون قد تخلى عن تاريخه الدموي السابق لكي يعطي السلام فرصة لكن الفلسطينيين رفضوها واندفعوا في »خيارهم« الأصلي وهو العمل لتدمير إسرائيل.
إن شارون يتقدم في العين الغربية نحو أن يكون نموذج القائد السياسي المحنك، فضلاً عن كونه »البطل« العسكري المشهود له، بينما تتهاوى صورة الانتفاضة في بئر الدم بحيث غطت أو تكاد تغطي عملية تل أبيب على كل إنجازاتها السياسية والإعلامية الباهرة.
إن المسرح يعد لهجوم إسرائيلي كاسح، سياسياً ومن ثم عسكرياً، لن يجد بين القوى النافذة دولياً مَن يعترض عليه، فضلاً عن أنه لن يجد بين العرب من يصده أو يتصدى له، بما قد يمكّنه من أن يستفرد الفلسطينيين فيحارب الانتفاضة بأنها من أعمال العنصرية ومعاداة السامية، وليست مقاومة سلمية فريدة في بابها للاحتلال الإسرائيلي ولإنكار هوية شعب بكامله، فضلاً عن حقوقه.
إنها حرب جديدة، و»ذكية«، تُشن اليوم ولسوف تتعاظم غداً ضد العرب بعنوان فلسطيني، وضد الفلسطينيين بعنوان »الإرهاب الإسلامي«،
ولسنا نعرف مَن نتوجه إليه بالتحذير وبضرورة الاستعداد لمواجهة هذه الحرب الذكية…
فلتكن الرسالة إذن »إلى مَن يهمه الأمر«، وعسى أن يسمعنا!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان