لم يعد ممكناً السكوت على الوضع المزري، بل المهين، للحكم القائم في لبنان، بل لقد صار الصمت عن خطاياه، كما عن مباذله جريمة قومية..
ذلك أن الأضرار التي يتسبّب فيها هذا التردي الفضائحي على قمة السلطة، لم تعد تقتصر على »دولته« المفلسة وإدارتها البائسة والمؤسسات فيه عامة وخاصة، فضلاً عن رعاياه المساكين، بل هي باتت تحسم أيضاً من رصيد راعيه السوري، ومن قدرات هذا الراعي الذي يخوض هذه الأيام واحدة من أقسى المعارك وأشرفها ضد الحلف الجهنمي المعلن بين الإدارة الأميركية المتصهينة وبين السفاح الإسرائيلي أرييل شارون.
ولقد تواضع اللبنانيون في مطالباتهم لهذا الحكم متعدد الرؤوس والأمزجة والأغراض، فلم يعودوا يتوقعون منه (مثلاً) أن يكون بموقفه نصيراً لشعب فلسطين (ولأسباب وطنية لبنانية..) في مواجهة المذبحة الإسرائيلية المفتوحة ضده في ما تبقى من »أرضه« وما تبقى فوقها من بيوته وأشجاره وأسباب حياته..
كذلك تواضع اللبنانيون في توقعاتهم منه بأن يكون معيناً لشعب العراق في محنته القاسية في مواجهة الاحتلال الأميركي، وهو المطحون بطاغوت صدام حسين ونظامه الوحشي طوال دهر… وهو موقف كان طبيعياً بل وضرورياً لأسباب ولمصالح وطنية لبنانية قبل العواطف والمصالح القومية..
لقد تواضع اللبنانيون في آمالهم ومطالبهم من هذا الحكم بحيث باتوا يرضون منه بألا يكون عبئاً عليهم بداية، في حاضرهم وفي غدهم، ومن بعدهم على سوريا وواجبها القومي.. وألا يكون في قراراته ما يبرّر العنصرية الإسرائيلية ضد شعب فلسطين (تمليك الفلسطيني شقة بدلاً من استئجارها، فضلاً عن التحري عن أموال »حماس« و»الجهاد الإسلامي« في المصارف اللبنانية)… وألا يكون في مسلكه ما يخدم الاحتلال الأميركي للعراق، كمثل أن يساهم بعض المتمولين ورجال الأعمال السماسرة فيه (وبغطاء من بعض النافذين) في خديعة إعمار العراق، على حساب شعبه وحقه في خيرات أرضه وفي… الحرية والوحدة.
إن الحكم المشغول بخلافات رؤوسه المتعددة الأهواء والأغراض، والتي لا تنتهي، وهي بمجملها شخصية، لا يمكن أن يكون حليفاً صادقاً، كما أنه لا يمكن أن يكون »راعياً صالحاً« لمصالح شعبه مهما تظاهر بعضه برعاية المطالب الاجتماعية، وبعضه الآخر بالعمل لإدخال لبنان إلى العصر، ومهما تشدق جميعهم بشعارات وحدة المسار والمصير!
لقد فقد لبنان حظوته العربية، فقد سمعته الطيبة وفقد دوره الذي لا يعوّض، وفقد الكثير من رصيده المعنوي عند إخوانه العرب، وقد كان ذلك مصدر ثراء له غير محدود.
صار »اللبناني« يهرب من أي حديث عن لبنان مع »الإخوان العرب«!
ذلك أن الحكم في لبنان صار موضوعاً للتندر على »الإخوة الأعداء« في قمة السلطة… والجديد أن »المواطن« لم يعد معنياً بالدفاع عنهم، وإن كان يدفع الضريبة من كرامته الشخصية، فهم في نهاية المطاف »أشراف بلدنا« الحاكمون ونحن رعاياهم، ولو كنا لأساليبهم وممارساتهم رافضين!
صار اللبناني، المعتز بهويته، يخجل ب»دولته«، وحكمها البائس الممزق لصورة الوطن، وصارت سمعة الحكم السيئة، بل والمهينة أحياناً، تمس كرامة المواطن العاجز عن التنصل من حكامه كلياً، والذي يشينه في العديد من الحالات أن يحتسب بين »رعاياهم«!
* * *
لم يعد يكفي توجيه النقد أو اللوم الى الحكم المشغول عن الدنيا بنفسه وبمصالح أطرافه ونكاياتهم ومعاركهم التي لا تتوقف إلا لتتجدد أعنف وأشرس وأدهى!
لا النقد ينفع بعد، ولا مر العتاب، ولا حتى التهديد بالآخرة! وحسن الختام!
فكلهم يرون في أنفسهم أنهم من المخلدين، وأن الشعب الى غياب!
إن الحكم، بمختلف رؤوسه، يقترب من اقتراف جريمة وطنية عظمى بحق شعبه، تتمثل في تدمير ما تبقى من »دولته«، المتهالكة أصلاً.
ليس من بريء على قمة السلطة، ولا يفعل تبادل الاتهامات بين الرؤساء والأمراء إلا في تأكيد ضلوع الجميع في الارتكابات التي تكاد تذهب بالدولة.
.. وما هي مسؤولية »الشعب« عن اختلاف الطباع، أو اختلاف النشأة، أو اختلاف المصالح بين »الرئيس العماد« و»الرئيس الشيخ« و»الرئيس الأستاذ«، فضلاً عن رؤساء الظل الآخرين الذين يجنون منافع الحكم وهم يتخذون المواقع الفخمة على رأس »المعارضين« »لبعض« الحكم أو »لبعض« الدولة!
إنهم أبناء النظام نفسه، بل و»بناته« أو بناة هذه الصيغة الفضائحية منه!
إنهم شركاء في المسؤولية.. لا يهم إن كان واحدهم »يكره« الآخرين وينوي الإيقاع ببعضهم عن طريق تعطيل الدولة، أو تهشيم مؤسساتها.
لا بريء في هذه السلطة التي يصعب تحديد نسبة الفساد في هذا او ذاك من اقطابها، والتي لا مجال لتحديد نسبة مسؤولية كل منهم عن الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها اطرافها وما تزال ترتكبها مجتمعه او منفردة او بين بين كل يوم.
وكيف لا يفقد الحكم مصداقيته اذا كان كل طرف فيه يهشم سمعة الآخر، ويتفنن في التشهير به، علنا وبالصوت الحي، حتى لو نسب الكلام الى »مصادر مطلعة« او »مراجع موثوقة«، او وُضع على السنة المحازبين او المستفيدين او المنافقين او اللاعبين على الحبال.
للمناسبة: المواطن يصدق كل ما يسمع وما يقال له علناً او همساً وعن اي من »الكبار«!
الخزينة مرهقة حتى العجز المتفاقم المهدد بافلاس الدولة، نتيجة لخدمة الدين المتراكم شهراً بعد شهر، ونتيجة لخدمة الغرض السياسي المتفاقم ساعة بعد ساعة.
الاقتصاد خَرِب… وخرابه بات عضوياً، فالقطاع العام موضع تشهير يومي، وهو معروض للبيع بلا مشترين، اما القطاع الخاص فيعاني من انعكاس مسلسل الازمات على قمة السلطة الذي لا ينتهي، والذي يجعله »يهرب« الى الخارج حيث ما يزال له بعض الرصيد، وحيث يحاول ان يعوض بالكفاءة الشخصية عن السمعة الحكومية الرديئة!
الزراعة هي اقصر الطرق الى الافلاس… ولا يحل الترويج للتفاح معضلات الانتاج الزراعي غالي
التكلفة والعاجز عن المنافسة في الجودة والمتخلف لغياب الارشاد، ولطبيعة »الزعبرجي« في المصدّر اللبناني. وثمة حكايات شهيرة يرويها المصريون والليبيون وأشقاء آخرون دفعتهم العاطفة الى المساعدة فابتلوا بالغش والإخلال بالتعهدات لنقص فاضح في حجم الانتاج حاول بعض الطارئين على التجارة ان يعوضوه من… تركيا!
الادارة شلو، تكاد تلفظ أنفاسها تحت ركام »الحشو« بالتعاقد او بالوكالة او بالفاتورة، ونقص الكادر المؤهل، و»كوتا« التقاسم بين رؤوس السلطة لأركانها، وآخر ما حُرِّر هو ما يتصل بمدير عام »يتبرأ« منه كل من وقعوا مرسوم تعيينه!
بل ان »الادارة« بمواقعها الحاكمة او الحساسة انما يشغلها »وكلاء« اداريون عن اركان السلطة، برؤوسها المتعددة، وبالتالي فكل ما يوجه الى كبار الموظفين من تهم بنقص الاهلية او بخراب الذمة او بالعجز عن ممارسة مهام مواقعهم، انما ترتد على اهل الحكم في قمة السلطة، الذين وضعوهم في هذه المواقع ليمثلوهم هم بأغراضهم الصغيرة وليوفروا لجمهورهم »الخدمات« بل »المخالفات« التي بها تُبنى الزعامات!
الجامعة الوطنية توجه اليها الضربة تلو الضربة كل عام، حتى تكاد تتهاوى في وهدة الافلاس!
والمدرسة الرسمية تكاد لا تجد من التلامذة عدداً يماثل الاساتذة في الملاك او طابور المتعاقدين، من خارج الملاك..
الكسارات تطحن عظام الطبيعة في »لبنان الأخضر«، بينما مجلس الوزراء الذي صار أشبه بحلبة مصارعة، يجيز في جلسة الغد ما كان قد منعه في جلسة الأمس، بغير تبرير أو تفسير (وكذلك جرى مع السيارات العاملة على المازوت)… وبين اقرار وإلغاء يلتهم تجار البحص وأصحاب الكسارات وأصحاب سيارات النقل الخاص، الكثير من قوت المواطن الذي يتعاظم إفقاره يوماً بعد يوم!
ثم هناك الرشى ذات الطابع السياسي الذي غالباً ما يكتسب ملامح طائفية أو مذهبية، فترتفع خارج المحاسبة..
أما القضاء فإنه ضحية ذلك كله، وأساساً ضحية الصراع على قمة السلطة، وهو صراع يذهب بحصانته، إذ يجعله يبدو وكأنه طرف، أو يحاول بعض أطراف الصراع ان يتلطوا خلفه أو ان يكلفوه بما لا يطيق فيدفع من سمعته ضريبة مباذلهم!
وأما مجلس النواب فيكاد يصبح منافساً للمقاهي المحيطة به في »الداون تاون«، وربما خطر ببال احدهم في المستقبل ان يقترح فتحه أمام السياح لكي يتفرجوا على الديموقراطية اللبنانية الفريدة في بابها.
***
العلة في الرأس… فكيف إذا كان الرأس رؤوساً!
وكيف إذا كان الصراع مفتوحاً بين »الثابت والمتحرك« على من ينجح في التخلص من الآخر أولاً، ولو أدى ذلك إلى تدمير هيكل الدولة!
في التوصيف الشعبي فإن وضع اقطاب الحكم هو كوضع زوجين متعاركين، يحاول كل منهما ان يقهر الآخر بتحطيم بعض أثاث البيت، فيرد الآخر بالنكاية بتحطيم البعض الآخر من الأثاث… الذي لم يدفع أي منهما ثمنه!
وثمة نكتة قديمة تقول ان جدنا آدم وستنا حواء تعاركا، عاريين، على تفاحة واحدة، بينما هما حسب الاسطورة في الجنة!
وبرغم ان التفاح كثير في لبنان، ولا نجد له من يشتريه، فإن أهل السلطة يصرون على محاولة اقناعنا بأننا في الجنة.. بعد! وان كنا في انتظار القرار بطردنا منها!
والقرار ينتظر أقرب جلسة لمجلس الوزراء على حلبة المتحف!