توضأت فلسطين بدماء شيخها وقامت تؤذن لفجر جديد للجهاد الموصول فوق الأرض المباركة بالشهادة. علا الصوت بنداء الوطن المقدس لينبّه الغافلين أو المتناومين أو المخدَّرين بأضغاث أحلام اليقظة إلى أن زمن الوهم الأميركي بخريطة طريق إلى التسوية قد خرّ صريعاً بصواريخ الأباتشي التي تقوم على حراستها طائرات »الأف 16« التي وصلت للتوّ من مخازن البنتاغون.
بثّ الفجر القاني الصبح الجديد بكوفية بيضاء على رأسه. لم يعد الشيخ بحاجة إلى مقعده ذي العجلات لكي يتنقل بين صلاة الدعوة وصلاة الجهاد.
غمرت الدماء وادي النيل مستعجلة موسم الفيضان. اختلطت بدماء أبطال العبور الذين أوقفوا بالأمر دون هدفهم فقضوا غماً وانسحاقاً بذلّ الانكسار الذي منعهم من تحقيق نصر ممكن، وبشهداء أقل.. هناك في سيناء وفي القناة ومن حولها وصولاً إلى فلسطين.
انهمرت الدماء نزولاً إلى بحيرة طبريا، وأكملت مسارها عبر مجرى نهر الأردن مرتقية هضاب الجولان إلى اليرموك… ثم إلى الفرات لكي يحملها إلى العراق فتلاقي دجلة إلى شط العرب وتلتف على خصر الجزيرة مع الخليج عبر مضيق عمان قاصدة اليمن.
ها هي دماء الشيخ تفور وتنساب عبر ليبيا عمر المختار في اتجاه تونس التي تخاف من »القمة العربية« فتكاد تصرخ بأعلى صوتها: اللهمّ ادفع عني هذه الكأس!.. وفي الجزائر تتداخل الدماء بالدماء حتى تكاد الصحراء تغدو حقلاً من شقائق النعمان المغربية.
* * *
عجباً، يخافون من الشيخ المقتول المغسول بدماء وضوئه، وينسون القاتل، بل يكاد بعضهم يذهب إليه لاستغفاره، أو ليطلب إليه أن يترك له أمر التصفية بالتفاوض بدلاً من الرصاص، أو بالفتنة بدلاً من الجهاد.
والشيخ الذي كان مجرد داعية بلا قدمين قد غدا بالشهادة رسولاً بجناحين، ينشر ظله الدامي فوق هذه الأرض المنوّمة بالقهر، المغيّبة بالأسر، المنهوبة ثرواتها بالأمر، ومع ذلك فهي تنتظر من يتخذ منها سيفاً فتحميه، ويتخذ من أهلها حصناً فيمنعون عنها الغاصب والعادي والناهب والسمسار والنبي الدجال والطاغية المتألّه بسد من أجسادهم… أليس ذلك أشرف من أن يقضوا في سجن الظلم والفقر والتخلف المفروض بالأمر السامي؟!
ما سر هذه المقدسة فلسطين التي لا تتوقف عن التعاظم حتى لتكاد تكون وجه العالم الإنساني كله: مع كل شمس جديدة تمنحه المزيد من ملامحها المجرحة والمتوهجة بدم الشهادة؟!
تتوالى مواكب التشييع، نهراً، بحراً، محيطاً. يدفن الشهداء الشهداء ثم ينضمّ الجميع إلى الموكب المهيب الذي يتعاظم عدداً ومنعة كلما استخدم القتلة الشارونيون أسلحة تدمير أعظم فتكاً: أف 16 وأباتشي لمواجهة رجل يستطيع بالكاد أن يؤدي صلاته فوق مقعده ذي العجلات؟!
كلما شُيّعت كوكبة جديدة نهض الشهداء القدامى فانضموا إلى المسيرة واستأنفوا مواجهة الموت الإسرائيلي حتى إنهاكه بالقتل!
ليس الوطن مقبرة.. إنما يتوقف الشهداء فيها لحظات لالتقاط الرايات التي أسقطها الرصاص من أيدي السابقين، ثم يستأنفون مسيرتهم المظفرة إلى الحلم المجبول بدمائهم بامتداد الأرض التي كانت لهم وستبقى لهم ولن تكون إلا لهم.
* * *
لم تصب مذبحة الجامع في حي صبرا في غزة أياً من سلاطين العرب بأذى. لم يكونوا هناك. لم يكونوا هنا. لم يكونوا في أي مكان. كل الأمكنة لأرييل شارون وخدينه جورج .و. بوش. ثم أنهم لم يتبعوا شيخ فلسطين يوماً ولو إلى الصلاة. له دينه ولهم دين..
لم تصب الصواريخ القمة العربية لأنها وهم أو سراب. ثرثرة بلا عمود فقري، بلا قوام، بلا نصاب، بلا قرار… وانعقادها عبء يهرب منه »أهلها«، فإن أصرت عليها واشنطن، ومعها دائماً تل أبيب، انصاعوا وتركوا لها أن تصدر بيانها الختامي »مشترطين« أن يترك لهم شرف الترجمة إلى… لغة القرآن بطبعته الحديثة المعدلة بالأمر!
ثم أن السلاطين بحاجة إلى بعض الوقت لكي يزيلوا عن وجوههم دماء شيخ فلسطين،
وهم يدركون أنهم، ومهما حاولوا، سيجدون شيخ فلسطين ينتظرهم ليحاسبهم في القاعة المذهبة كما في الطريق إليها، أو عند العودة منها.
ستحضر فلسطين التي فرحوا بغيابها كقضية، ولم يتبق منها إلا قرار لا ينفَّذ بتحويل السلطة التي صارت شرطة مفككة إلى وكالة غوث »وطنية« تحتاج إلى من يغيثها.
* * *
كان أحمد ياسين شيخاً ل»حماس«. ها هو الآن شيخ لفلسطين وعبرها للأمة جميعاً. شيخ للمظلومين، للمحرومين من أوطانهم وفي أوطانهم. شيخ لكل أولئك الذين لا يجدون مرجعاً ينصرهم وهم يجاهدون لرفع القيد من رقابهم وأيديهم.
انقلبت الأسطورة إلى حقيقة باهرة السطوع كالدماء المراقة فجراً على الأرض المطهرة في غزة بني هاشم في فلسطين: كان شيخاً لتنظيم سياسي مقاوم كثيراً ما اختلف الناس معه أو عليه… ها هو الآن شيخ للأمة جميعاً. ها هو في موقع الرمز.
الحقيقة صلبة كالأرض ومقدسة كالأرض ودامغة كالدم.
لم يكن الشيخ أحمد ياسين أسامة بن لادن ولم تكن »حماس« طالبان الفلسطينية أو العربية. كان، ببساطة، صاحب قضية. لم يكن نبياً ولا رسولاً يبشر بكلمة الله. كان، ببساطة، صاحب الأرض المطرود من أرضه، المقتول في أرضه، الباقي في أرضه.
لم ينسف الأبراج في العواصم البعيدة على رؤوس من فيها بغير تمييز، وبغير رأفة، بذريعة أنه يقاتل الظلم والقهر الاستعماري.
لم يكن قاتلاً كما أولئك المستقدَمين من أربع جهات الدنيا ليأخذوا منه أرض أجداده بقوة السلاح. كان يحاول أن يحفظ الأرض لأهلها المقتولين فيها وعليها.
لم يكن سلطاناً يقمع شعبه لحساب الأجنبي. كان مجرد إنسان يرفع صوته لكي يحفظ ما تبقى من حقه في أرضه.
لكن المعادلة الأميركية الإسرائيلية المفروضة على الدنيا تقضي باعتبار صاحب الأرض المقتول إرهابياً والمحتل القاتل مبشراً بالديموقراطية ومناضلاً من أجل حقوق الإنسان!
شيخ فلسطين. شيخ المقاومة. شيخ الشهداء: ها أنت الآن القدوة والمثال. ها أنت تخم الحق الذي لا تراجع عنه ولا تنازل. ها أنت الآن الاسم الحركي للقضية… ها أنت في قلب الاسم المقدس: فلسطين، فاهنأ في هذا المقام يجللك دم وضوئك حتى لتصير صورتك بعضاً من ملامحها.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان