ما زال جمهور المواطنين العاديين الذين علّمتهم تجاربهم الحذر يقاومون اليأس من محترفي السياسة، بمناوراتهم وصفقاتهم ومساوماتهم المعروفة، مفترضين أن هؤلاء لا بد يعرفون هول المسؤولية التي يتحمّلون إذا ما فشل مؤتمر الحوار الوطني.
… فكيف إذا كانت الشكوك قد وجدت ما يغذيها في مواقف البعض من هؤلاء الذين يجنحون دائماً في اتجاه الأقوى من الدول ذات التأثير في السياسة اللبنانية، متنكّرين لمن كان مصدر الدعم المفتوح لهم، يوفر لهم القفز إلى الرئاسات والنيابات والوزارات وأحياناً إلى التفرّد بالزعامة بإضعاف الشريك أو بتغييب المنافسين كلياً.
ولأن ذاكرة الناس قوية فهم ما زالوا يحفظون لهذا أو ذاك من هؤلاء السياسيين شعارات رفعها، وخطابات هدر صوته فيها حتى كاد يبكي وهو يقسم يمين الولاء لأصحاب النعمة عليه، وتصريحات في نبل المقاومة وقداستها يتحفظ على إطلاقها المجاهدون الكبار في صفوفها.
إن الساسة المحترفين، إجمالاً، يعتمدون على ضعف ذاكرة الناس أو على تسامحهم أو على بيعهم الأوهام من نوع أنهم إنما قد بدّلوا مواقفهم وبدّلوا ولاءاتهم لأن الدنيا قد تغيّرت، ولأن التوازنات السابقة قد انكسرت، وأنه لا بد من تدارك الأمر وتبديل الولاءات حرصاً على »المصلحة الوطنية العليا«، وتحقيقاً للشعار المبتذل: »لبنان أولاً«… وهو مبتذل لأن لا مبرّر لرفعه أصلاً، ولأن السابقين إلى القول به إنما رفعوه للتبرّؤ من أهلهم والانحياز إلى أعدائهم… ولأن مجرد رفعه يوحي أن ثمة مَن هم لبنانيون أكثر من الآخرين!
فمثل هذا الشعار قد رُفع دائماً عشية توقيع معاهدة الصلح مع العدو الإسرائيلي، أو في تبرير القطيعة مع الأهل الظالمين ومن ثم الارتباط بالأصدقاء الأقوياء في العالم. وبالتالي فرفعه بات بمثابة إعلان الخروج على الأهل والالتحاق بالأجنبي عموماً، وبالعدو الإسرائيلي خصوصاً!
ثم إن هذا الشعار يتضمن إدانة لحامله أو للقائل، لكأنه من قبل لم يكن يقدم مصلحة وطنه على أي مصلحة أخرى، أو لكأنه كان يفرّط بمصلحة لبنان من أجل مكسب شخصي أو من أجل غنيمة سياسية.
والأخطر أن يستخدم هذا الشعار لتبرير الانحياز إلى »الدول« ذات القوة الأسطورية، بما يعنيه من إيهام المواطنين بأن مصلحة الوطن فرضت عليه، أخيراً، هذا الخيار الذي كان قد نسيها، ونسيه بالتالي، في السابق.
إن شعار »لبنان أولاً« يعني، حين يطلقه هذا السياسي المحترف أو ذاك: »أنا أولاً… وكي أكون »أولاً« فلا بد من الالتحاق وبسرعة بمصدر الدعم والإسناد الذي تبدل، ولا بد أن أكون الأول في إخلاء المعسكر المهزوم وإلا سبقني إليه الآخرون بالشعار ذاته«.
كذلك فإن لهذا الشعار، في هذه اللحظة السياسية بالذات، مضموناً عنصرياً.. فهو، فضلاً عن أنه يلمح إلى التشكيك بوطنية سائر اللبنانيين، فإنه يستعدي الجميع على العرب عموماً، وعلى السوريين والفلسطينيين على وجه التخصص: إذ لا يمكن أن يكون »لبنان أولاً« في وجه الولايات المتحدة الأميركية، مثلاً، أو فرنسا، أو بريطانيا أو ألمانيا أو حتى قبرص.
ومَن يرفع مثل هذا الشعار في وجه مؤتمر الحوار الوطني، أو حتى داخله، فهو إنما يحاول نسف المؤتمر، من خلال التشكيك بوطنية الآخرين..
على أن الضمانة أن في المؤتمر قيادات محصّنة بوطنيتها وبوعيها وبتجربتها الفريدة في بابها بحيث لا تجوز عليهم مثل هذه الألاعيب الرخيصة التي تستهدف تقسيم اللبنانيين إلى فئات، فيهم الدرجة الأولى والثانية والثالثة… إلخ، وتقسيم الوطن نفسه بحسب تصنيفاته إلى جهات ومناطق باب أول وباب ثان وباب ثالث.
وباختصار فإن »لبنان أولاً« يعني »المتصرفية«، أما الباقي فملحقات، حتى لو كانت هي الأكثرية أرضاً وبشراً وموارد، أو كانت الأعظم تضحيات من أجل الوطن (أي لبنان) الذي ما زال عندها في مرتبة الأحلام، تعطيه دماءها ثم يأتيها مَن يحاول تصنيفها، وفي أي درجة يمكن احتساب ولائها.
الطريف أن المبالغين في رفع شعار »لبنان أولاً« يتبدون كأنهم الأقل حرصاً على نجاح مؤتمر الحوار الوطني… كأنما بغير نجاح هذا المؤتمر، بملفاته المعلقة جميعاً يمكن استنقاذ الوطن ودولته التي لم يحم وجودها عموماً إلا أولئك الذين يعطون ولا يأخذون، ويستشهدون ولا يفرّطون بكرامة انتمائهم العربي لا في العواصم القريبة ولا في عواصم القرار البعيدة، والتي يسعدها رفع هذا الشعار كثيراً.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان