طلال سلمان

سيلان.. زيارتان وشتان بينهما

بعد أسابيع قليلة من استلامي العمل بسفارتنا في نيودلهي وصلتنا رسالة من الديوان العام في القاهرة. احتوت الرسالة على تكليف السفير بالسفر إلى كولومبو عاصمة دولة سيلان لتقديم أوراق إعتماده سفيرا غير مقيم  لدي حكومتها. اتصل مستشار السفارة بمكتب المفوضية العليا لسيلان في العاصمة الهندية لترتيب برنامج الزيارة وتحديد مواعيدها وإصدار تأشيرات دخول للسفير ومساعد له. بصفتي الأصغر والأحدث في هيئة السفارة كنت هذا المساعد.

***

قضينا ليلة في بومباي في فندق تاج محل، أرقي فنادق الهند في ذلك الوقت. نزلنا فيه ضيوفا على شركة الطيران الأمريكية التي تعهدت بنقلنا إلى كولومبو مساء اليوم التالي. هناك وجدنا في استقبالنا بالمطار مسئولا كبيرا من الخارجية وفي صحبته شاب صغير قدمه لنا على أنه الدبلوماسي المكلف بمرافقتنا خلال مدة وجودنا في الدولة. ارتحت للشاب الذي كان في مثل عمري أو أكبر بسنة أو اثنتين وأظن أنه ارتاح لي بدليل أنه راح يلمح إلى فكرة أن نخرج معا لنسهر في ملهى ليلي بعد أن يأوى السفير إلى جناحه في الفندق.

***

كنت بالفعل تواقا للتعرف على مدينة قرأت عنها أنها أكثر تحررا من نيودلهي وأخف روحا إن صح التعبير. بدانا التنفيذ لسهرة استطلاع. صعد الشاب معي إلى غرفتي لأستعد للخروج إلى السهرة وليتصل بالملهى المناسب لحجز مائدة لنا. أسر لي بأن لا أقلق بشأن النفقات فالتعليمات لديه تقضي بأن يوقع على جميع فواتير الضيوف فالضيافة المقررة لزيارتنا تغطي كافة ما نقوم به من أنشطة. شعرت أن الشاب قد اتخذ قرارا قبل وصولنا بأن ينتهز فرصة وجودنا ليقضي هو نفسه وقتا ممتعا على نفقة الدولة.

***

دار بيننا حديث بينما كنت أرتب في خزانة الملابس ما احتوته حقيبة سفري، فهمت منه أنه يريد أن أترك سيلان وأنا، حسب تعبيره، عاشق لها. جلس يحكي عن شاطئ هو الأحلى بين شواطئ المحيط، أحلى من المالديف وسيشل، وعن جبال ومدن فيها أروع من مثيلاتها في سويسرا. انتهيت من تغيير ملابسي وبدأت أطفئ مصابيح الكهرباء عندما دق جرس الهاتف. السفير في جناحه على الخط يطلب أن “نعمل حسابه” من الآن فصاعدا في جميع خططنا. ضاعت الفرصة وأجهض الحلم.. أجهض مؤقتا ليعود يتحقق عندما عدت إلى سيلان بعد مرور حوالي عشرين عاما وقد تغير اسمها إلى سريلانكا.

***

عدت إلى كولومبو ضمن وفد الجامعة العربية إلى مؤتمر قمة عدم الانحياز. كان محمود رياض يستعد للتخلي عن منصبه كأمين عام فكلف أحد مساعديه وهو السفير والوزير السابق محمد رياض بتشكيل ورئاسة وفد الأمانة العامة للجامعة لحضور المؤتمر لمهمة تنسيق أعمال وأنشطة الوفود العربية في المؤتمر. كلفني بقرار آخر أن أكون نائبا لرئيس الوفد. قضينا في أعمال المؤتمر أياما عديدة ثم قضيت في ضيافة الصديق مهاب مقبل القائم بأعمال السفارة المصرية أياما إضافية نعمت فيها بكرم نادر في الاستضافة ورحلات إلى أنحاء شتى في سيلان. تغير قبل سنوات قليلة من انعقاد المؤتمر اسمها الإنجليزي النشأة إلى سريلانكا، الاسم المتعدد الأصول والمعاني، فهو، حسب ما فهمت وقتذاك، يجمع بين العربي والفارسي والسانسكريتي.

***

كان بين أحلامي المتواضعة في ذلك الحين حلم أن أشرب الشاي السيلاني الأصلي في بلد نشأته. أشربه كما كان يشربه الإنجليزي، مزارعا كان أم تاجرا أم مستوطنا. لذلك اخترت مع مرافقنا خلال الزيارة الأولى أن نزور مدينة كاندي، موطن الشاي السيلاني، وأن نشربه بالطريقة نفسها التي كان يعد بها في زمن الاستعمار الإنجليزي. فاتني أن أطلب صحبة بعينها يتماشى وجودها مع تقاليد وأجواء شرب الشاي. ففي تلك الزيارة كنا مجبرين على اصطحاب السفير وخصاله المعقدة وملابسه القاتمة وكلماته الملغمة بالقنوط واليأس، بينما في الزيارة الثانية كانت مجالات الاختيار واسعة ورحبة. معذورة المقارنة بين الزيارتين إذا فرضت نفسها علينا وعلى طباعنا منذ ذلك الحين.

بالمقارنة تأكدنا من أن لشرب الشاي طقوسا. أول طقس فيها حسن اختيار رفاق المناسبة وموقعها. يعني مثلا أن نشرب الشاي السيلاني في جو برودته ناعمة وودودة، جو غائم تطل علينا من خلال غيومه جبال خضرتها زاهية، وعلى الصحون أمامنا رقائق خبز ممسوح بالزبدة وبعضها تغطيه طبقة أخرى من شرائح رقيقة من الخيار الطازج. محرم في هذه المناسبة المزج بين شرب الشاي السيلاني والحديث في السياسة واستحضار المآسي كما حدث معنا في الزيارة الأولى التي حضرها السفير. مسموح بل ضروري أن تتولى امرأة صغيرة في السن أو كبيرة مسئولية الإشراف على حسن سير المناسبة ابتداء من تفريغ الماء الساخن في براد الشاي بتوقيتات دقيقة وتعويض ما استهلك من رقائق الخبز في صحون شركاء المناسبة، مناسبة شرب الشاي. وبالفعل وربما لتوفر هذا الشرط في الزيارة الثانية التي جرت بعد عشرين عاما احتلت سيلان باسمها الجديد مكانة متميزة في ذاكرتي.

***

عشت بعد رحلة كاندي الثانية أحرص على عدم تفويت فرصة أو دعوة لمناسبة شرب الشاي. حضرتها في نوراليا، المنتجع الرائع في جماله وبرودته وفي مستوى نزلائه. استمتعت في نوراليا بكثير مما افتقدته في مواقع ومنتجعات أخري في سريلانكا، وخلال زياراتي المتكررة لمدينة لندن أو إدنبره ثم في سنتياجو بدولة التشيلي في جنوب أمريكا لم يفتني متابعة ما طرأ على هذه المناسبة من تطور في طقوسها، حتى اسمها طاله التغيير في تشيلي فصار “أونسي” أي “الحادية عشر” ولدي عائلات تسكن حيا بعينه في بيونس آيرس عاصمة الأرجنتين.

***

طقوس شرب الشاي وجمال منتجعات سيلان وأمور أخرى اكتشفتها في رحلتي الثانية إلى هذا البلد الجميل جعلتني أحتفظ لسيلان بأحلى الذكريات عن رحلاتي في الخارج. قضيت في هذا البلد وقتا ممتعا وخرجت من الزيارة الثانية بصفة خاصة بباقة متنوعة التجارب والخبرات وباقة أحلى من الأصدقاء والصديقات، ومن الزيارة الأولى بتوصية ألا أكون في أخلاق أو طباع أو قدرات السفير عندما أتقدم في السن وأرتقي في السلك الدبلوماسي.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version