ارتفع أذان المغرب، أمس، في التاسع عشر من رمضان المبارك، متشحاً بالحزن الذي سرعان ما دهم البيوت جميعاً في المشرق العربي كما في المغرب، بل هو تجاوزها الى بيوت كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بينما تلقت عواصم العالم جميعاً الخبر المتوقع بكثير من الأسف: لقد انطفأ الشيخ زايد بن سلطان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة.
ليس مبالغة القول ان كل عربي شعر بأنه قد فقد بعض أهله.. بل لعل الكثير من العرب، مسؤولين ومواطنين عاديين، قد احسوا انهم قد فقدوا ملاذاً وملجأ يمكن ان يقصدوه في وقت الشدة، هذا اذا لم يبادر هو متى عرف باحتياجهم إليه الى مد يد العون وحماية الكرامة الانسانية فيهم بغير طبل او زمر واعلانات مدوية.
وبالتأكيد فإن الشيخ زايد هو الوحيد من بين الحكام الذي كان يتمتع بامتياز نادر، اذ ان المواطن العادي كان قد رفع الكلفة معه منذ زمن بعيد، فأسقط عنه ألقاب الفخامة والجلالة والسمو، اذ شعر بأنها تبعده عنه، وظل يناديه باسمه مجرداً »زايد«، فإن فرض عليه جو من الرسميات اضاف الى الاسم »الشيخ« باعتباره يتجاوز السلطة الى ما هو »عائلي«، كأنه »الأب« او »الجد« او »كبير الأسرة« او »شيخ القبيلة« التي كبرت به بقدر ما كبر بها.
وليس سراً ان صورة »الحاكم«، اي حاكم، ليست محببة لعيون اي عربي، وربما كان المواطن داخل الامارات وخارجها يفضل ان يبرئ »الشيخ زايد« من عيوب تلك الصورة، وأن يقرّبه منه ليبعده عما لا يرضاه له من خطر التشابه مع سائر الحكام الذين ينفر منهم ولا يحبهم.
لقد خسر المواطن العربي داخل الامارات وخارجها آخر من وصل الى قمة السلطة واستقر فوقها لأربعة عقود الا قليلاً، من دون ان يفقد الصلة معه او الأمل فيه، واحتمال ان يعينه اذا ما احتاج إليه ذات يوم.
لم يدّع الشيخ زايد، يوماً، وهو الذي أعطاه الله وأعطى بلاده فوق ما يتمنى، أنه قائد فذ، وأنه سيأتي بما لم يستطعه الاوائل. لم يرفع شعار تحرير فلسطين ولكنه قدّم لفلسطين كل ما دون الخط الاحمر بقليل. ولم يذهب إلى قتال الاحتلال الاميركي في العراق، ولكنه بذل محاولة اخيرة، بوصفه »الإنسان الطيب، المؤمن بعروبته، الضنين بأرضه« فتقدم من صدام حسين بنصيحة لا يمكن ان يقبلها طاغية، لعله يستنقذ العراق من خطر الدمار والفتنة.. وكان طبيعيا ان يرفضها الدكتاتور الذي كان قد اختار، بالفعل، وريثه فإذا هو الاحتلال!
لم يقصّر في نجدة لبنان او سوريا، ولا في مد يد المعونة الى مصر، وكان رأيه أن البقاء في مصر ومعها يمنع حاكمها من الانزلاق في طريق الخطأ، أما الخروج منها تحت شعار عزلها لخطأ ارتكبه حاكمها، فإنه يؤذي العرب مرتين: اذ يخرجها منهم فيزيد ضعفهم ضعفاً، ثم إنه يضعفها أمام عدوها، مما يزيد من قوة هذا العدو على العرب مجتمعين.
إن لبنان كله في حالة حداد.
وليس مبالغة القول ان دولة الشيخ زايد كانت الوطن الثاني للبنانيين (كما لسائر العرب)، ولكنها قدمت إليهم ما هو اكثر من فرصة العمل الشريف والحياة الكريمة والأمان: لقد تعاملت معهم جميعاً بلا تعصب وبلا منة… بل إن آلافاً مؤلفة من اللبنانيين (كما من سائر العرب وأكثر)، عاشت معظم حياتها في »دولة زايد« فولد أبناوها هناك وكبروا فتعلموا وتخرجوا من جامعاتها ولعلهم عملوا بعد ذلك فيها، فصارت أحب إليهم حتى من لبنانهم لأنها مرتع الصبا ومهجع الذكريات ومنطلق النجاح. لم تكن مجرد ملجأ من الحرب التي بذل »زايد« جهدا مشكورا لإطفاء نارها، لكنها كانت »بيتهم« ومصدر رزقهم، وثمرة جهدهم وعرق الجباه والزنود.
إن الحزن داخل كل بيت عربي، وهو حزن مصفى بلا طبول ولا لافتات ولا اعلانات. انه ينبع من الداخل… ذلك ان لا مجاملة في الحزن، ولا يعوّض عن الفقيد إلا التمني بأن يكون الخلف متابعاً لرسالة السلف.
لكن زايد بن سلطان كان نسيج نفسه، وكان فريداً من نوعه إذ اختلطت فيه ملامح مأخوذة من السلف الصالح، وظل دائماً فوق الصراعات والمنازعات، ولذا ارتضاه الجميع »مرجعاً« وسلموا بحكمه في خلافاتهم. هل تتصوّر حاكماً بلا غرض وبلا مطامع وبلا طموح الى دور البطل؟! إنه هو: زايد بن سلطان.
لقد فقد العرب »زايد الخير«… فالحزن في كل دار.
حمى الله دولة الامارات وعوّضها وعوّض العرب عن فقيدهم الكبير الذي عاش إنساناً، وإنساناً مات، لكنه ترك رصيداً لا ينفد حتى لو نفد النفط في أرض النفط.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان