طال انتظارنا لعودة كارول داغر إلينا في “السفير”،
لكن “غدر الغياب”، كما يتجلى في نتاجها الجديد “رجال.. وسلام” كان أفضل مما توقعنا، برغم أننا ألفنا أن تفاجئنا كارول دائماً، وهي الهاوية، بما يقصر عنه المحترفون.
قلة من الصحافيين والكتاب أو الدارسين العرب هم أولئك الذين توغلوا في الإدارة الأميركية في محاولة للتعرف إلى أساليب عملها وآلية اتخاذها القرار ومدى تأثير “رجالها” بخلفياتها السياسية والثقافية على ذلك القرار.
وبرغم أن معظم السياسيين اللبنانيين، والعرب إجمالاً، يتخذون من واشنطن محطة ثابتة على خط حركتهم العامة، ولا يتعبون من الاستشهاد بما “قاله لنا الأميركان”، أو بما “سمعنا في واشنطن” أو “عرفنا في واشنطن” أو “ما تفكر فيه واشنطن”… برغم ذلك فإن السياسة الأميركية ما تزال في الذهن العربي خليطاً من التآمر الماكر والمحكم الحلقات والسذاجة التي قد تبلغ حد الغباء بسبب نقص في الفهم أو الاستعلاء المبرر بالقوة أو الانعزال الموروث عما قبل عصر النظام العالمي الجديد.
كارول داغر نجحت حيث لم يوفق الكثيرون ممن حاولوا فهم “ما تدبره لنا أميركا”، أو “ما تخططه لنا أميركا” وارتاحوا إلى أن كل شيء سيأتينا جاهزاً من واشنطن مع التحيات.
كانت زميلتنا كارول عشية سفرها إلى الولايات المتحدة تستعد لرحلتها باعتبارها “ولادة ثانية” لها بالمعنى المهني، وربما بالمعنى السياسي المباشر أيضاً.
لم تذهب سائحة، ولا متفرجة أو مستكشفة، وإنما قررت أن تفيد من فترة المنحة الدراسية لكي تفهم وتعرف ليس فقط عن الولايات المتحدة وإنما أيضاً عن لبنان والعرب وإسرائيل، خصوصاً وإن توقيت رحلتها جاء بينما المفاوضات العربية – الإسرائيلية تدخل نقطة اللارجوع، حتى لو تأخرت “الخواتيم السعيدة”!
ولأن كارول داغر تفضل الصعب دائماً وتسعى إليه، ولا تتعب من تحدي نفسها وقدراتها، فلقد قررت أن تكتب في الموضوع الأكثر دقة وخطورة، ثم أنها اختارت الزاوية التي تتطلب المزيد من الدراسة والبحث والمتابعة والتنقيب: فهي عبر “الرجال” حاولت قراءة السياسات والمواقف.
وهكذا فهي قد رسمت بقلمها وبثقافتها وباجتهادها، وأحياناً بعواطفها، وجوه عشرات الرجال الذين يلعبون أدواراً في سياسات بلادهم، واستطراداً في المفاوضات العربية – الإسرائيلية، أي في العملية الجارية لإعادة صياغة تاريخ هذه المنطقة ، في ضوء التحولات المذهلة التي تهز الكون وتبدله تبديلاً شبه جذري.
لم تنس أحداً ولم تغل واقعة أو مشهداً قد يفيد ذكره في إزالة ملامح الشبح عن السياسات أو صانعيها… وهي استمرت تغير وتعدل في الصفحات والسطور مدخلة نفسها في سباق قاس: مع التطورات ومع المطبعة، حتى لحظة وقوفها – مساء اليوم – في فندق الكارلتون للتوقيع على النسخ الأولى التي ستصلها كما أرغفة الخبز الخارجة لتوها من الفرن.
وكارول داغر لا تخضع للمصادفات ولا يأخذها الهوى بعيداً عما قررته لنفسها: لقد درست الحقوق بقرار واع، وليس فقط بتأثير أبويها المحاميين، واقتحمت عالم الصحافة بقرار واع لتكون أقرب إلى ذلك العالم الغامض والممتع حيث تتلاطم التناقضات والقضايا والمباذل والتفاهات والأفكار والقرارات : السياسة.
إنه كتابها الثاني بعد “جنرال ورهان”. لكنه في المرتبة العشرين أو الخمسين ربما من تحدياتها لنفسها…
فهي ذات الثقافة الفرنسية قررت فكان لها أن تكتب بلغتها – الأم، العربية، واحتلت مكانتها في “السفير” متقدمة شوطاً واسعاً عن حيث كانت في الرصيفة “لوريان – لوجور”… وهي التي انصرفت عن السياسة المحلية باشمئناط، عادت لتطل عليها من أعلى شرفة في الكون: واشنطن،
وهي التي لا تعرف الوطن العربي أو العرب حاولت أن تفهمهم، ولو أنها لم تلتق بهم إلا وهم يعيشون إحدى أقسى لحظات تاريخهم وفي ظل شعار “تحديد الخسائر وإنقاذ ما يمكن إنقاذه” من الأرض والهوية والكرامة والدور والقضية.
هنا صفحات من كتاب كارول داغر الجديد “رجال… وسلام”، كمقدمة لفصول أخرى تنشرها “السفير” منها معتزة بإنتاج هذه الزميلة من نوع خاص والتي تجعلك تتوقع منها باستمرار مفاجأة أخرى في التحدي الجديد الذي تفرضه على نفسها أولاً ثم على الآخرين.
ومتعة أن تقرأ خلاصات مناقشات كارول ومشاهداتها، وخصوصاً إنها تفكر بالعربية وتكتب بالفرنسية، في حين كانت ملزمة بأن تناقش بالإنكليزية ، ثم تتجنب أن تسقط في هوة السوريالية “اللبنانية”.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان