انتصر الدهاء الإيراني، وهو إرث تاريخي ممتد عبر العصور، على رعونة الإدارة الأميركية التي تحاول تبرير إمبرياليتها بالرسالة الإلهية، معززة بالتحريض الإسرائيلي اليومي لاجتياح منطقة الشرق الأوسط بكاملها استئصالاً »للإرهاب الإسلامي« عربياً كان أو أعجمياً!
فبعد سلسلة من المناورات البارعة التي زادت من افتضاح نزعة التوسع الامبريالية الأميركية لاحتكار الثروة والقرار على المستوى الكوني، قدمت طهران هدية ذهبية إلى أوروبا التي سعت إليها متعجلة، وعادت منها شاكرة وفي يدها »الجائزة«: إعلان إيران قبول التفتيش غير المعلن وغير المحدود على مواقعها النووية.
وكان بديهياً أن يؤكد الوفد الثلاثي الذي ضم وزراء الخارجية في كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا على »زيادة التعاون بين أوروبا وإيران في مجالات التكنولوجيا الحديثة«، و»على مزيد من الاحترام المتبادل وبناء الثقة ومراعاة عزة إيران واستقلالها«.
لقد فشلت الحملة الأميركية الشرسة، التي كانت حكومة شارون الإسرائيلية توفر لها المزيد من الذخيرة يومياً، بتضخيم أخبار »الخطر النووي الإيراني«، وتعظيم مخاطر الصواريخ الإيرانية البعيدة المدى على سلامة إسرائيل، كما على سلامة قوات الاحتلال الأميركي في العراق التي باتت الآن في مرمى النيران الإيرانية.
وبديهي أن الوزراء الأوروبيين قد وجدوا طهران، كما عرفوها دائماً، عاصمة لدولة عريقة، ذات تراث حضاري مميز، وذات دبلوماسية بارعة، وذات قيادة كفوءة لم تنقص العمامة من قدرتها على المناورة، وإن كان »الإسلام« قد عزز أهليتها لدور »ثوري« مؤثر في موقعها الاستراتيجي من هذا العالم الذي يحكمه منطق القوة.
لم تتنازل طهران، فقرارها ما زال في يدها، ولكنها باعت أوروبا الموقف الذي يسحب من اليد الأميركية الذريعة الحربية التي تستولدها ذكريات الحصار الخائب والمحاولة العسكرية الموءودة في صحراء لوط، والطمع الدائم إلى السيطرة على منابع النفط بالكامل وفي إيران ومن حولها بعض أغنى الحقول بالذهب الأسود.
وقبل الحرب على العراق بذريعة امتلاكه أسلحة الدمار الشامل، وخلالها، وبعدها، كانت المدفعية السياسية للإمبريالية الأميركية تمهّد لاجتياح الدولة التي ترفع الإسلام شعاراً والتي صنفها »مبعوث العناية الإلهية »جورج و. بوش« واحداً من أضلاع مثلث »محور الشر« المكلف بتدميره تحقيقاً لكلمة الله… ومطلب أرييل شارون!
مع الحرب التي سقطت ذرائعها المعلنة في كل أنحاء الدنيا، (وفي مركزها: مجلس الأمن الدولي)، من قبل أن يسقط أول صاروخ مدمر على بغداد، بدأ النفخ في التهمة التي ستلفق لإيران والتي يجري تضخيمها على مدار الساعة لعلها تبرر »للثور الأميركي الهائج« أن يستكمل »تطهير أرض الأعداء« جنوباً وغرباً، أي إيران الثورة الإسلامية وسوريا البعث غير الشقيق للحزب الذي كان يحكم باسمه صدام حسين.
لقد تفادت إيران أن تدفع ضريبة الخطأ في الحساب السياسي فأقفلت حدودها على »طالبان« والحرب الأميركية عليها وعلى »تنظيم القاعدة« في أفغانستان… وخرجت في عداد الرابحين، ولو بشكل غير مباشر، من دون أن تطلق رصاصة واحدة.
كذلك نجحت إيران في أن تكون بين الرابحين (سياسياً) من نتائج الحرب الأميركية على صدام حسين في العراق، والتي كانت من وجهة نظرها حرباً بين شريكين تحالفا ضدها في حرب الثماني سنوات…
وتعرف إيران، كما تعرف سوريا، أن الأهداف الفعلية للحرب الأميركية المعلنة ضدهما سياسياً، والتي تطمع إسرائيل في أن تحولها إلى اجتياح عسكري، إنما تتلخص في حماية جيش احتلالها في العراق، وخطتها للهيمنة على هذا البلد الغني بموارده والخطير بموقعه الاستراتيجي الحاكم لكل جواره (العربي بداية والإيراني أساساً ثم ما بعدهما بحراً وبراً)…
ولقد فشلت الخطة الأميركية لاستدراج إيران إلى مواجهة مع العالم بذريعة مشابهة لتلك التي استخدمت لتبرير الحرب على »طالبان« في أفغانستان، أو على صدام حسين في العراق.
وللنصر الإيراني السياسي مردود طيب على الموقف العربي الممثل بسوريا ومعها لبنان… بل إن بعض نتائجه ستنعكس إيجاباً على الوضع الفلسطيني، إن وُجد من يستثمره.
… ولعل إسرائيل تعجل في تدمير فلسطين، وفي محاولة إخراج سوريا من دائرة التأثير بإرهابها كما في غارتها على المعكسر المهجور قرب دمشق بينما إيران في دائرة النار يطاردها الاتهام بامتلاك السلاح النووي.
لقد انتصرت إيران سياسياً.
والعرب شركاء في هذا النصر بقدر ما شاركوا ويشاركون في المواجهة الناجحة التي خاضتها طهران بكفاءة عالية، والتي كانت سوريا ضمن هذه المواجهة لا خارجها.
ومن حظ إيران أن الدهاء لم يصنف بعد بين أسلحة الدمار الشامل.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان