لا يملك شمعون بيريز، مهما بلغت براعته السياسية، أن يغيّر من »قدر« إسرائيل: فهي تعيش، بحكم النشأة، وتفرض على الذين قامت على حسابهم وحقهم في أرضهم أن يعيشوا في ظلال الموت.
إن طبيعتها تفرض هذه اللغة في »الحوار«،
وما كانت المفاوضات لتُقبل أساسù، لولا الخلل الفاضح في ميزان القوى والذي فرض على الطرف العربي المهزوم أن يقبل مبدأ المساومة على »مقدساته«، معلقù الصراع إلى موعد آخر.
ولا تموت قضية بحجم فلسطين والقدس فيها بفعل الشيخوخة كما لا تسقط بمرور الزمن.. وستجد دائمù من هو مستعد للموت من أجلها، وفي كل شبر منها، من النهر إلى البحر، لأن لا حياة له خارجها أو من دونها.
قد تتغير أسماء التنظيمات والأصول الفكرية للمتطوعين من أجل تحريرها أو من أجل حفظ حقوقهم فيها،
وقد تتبدل الأساليب فتكون في »الداخل« غيرها مع العائدين من »الخارج« وعلى أكفهم أرواحهم وصدورهم ممتلئة بنشوة تحقيق الأمل بالذوبان فيها، في انتظار الآتين بعدهم من الأبناء والأحفاد، ولو بعد حين.
ولن تكون العمليتان الفدائيتان المتميزتان اللتان نفذهما مجاهدو »حماس«، أمس، في عسقلان وفي القدس المحتلة، آخر تعبيرات الرفض للاتفاق المفروض الذي يعطي من فلسطين أكثر مما تحتمل ويأخذ للفلسطينيين أقل مما يستطيعون القبول، مهما تصاغروا وأعجزهم مناخ الهزيمة السائد.
وليس بغير معنى أن تكون إسرائيل قد دفعت في السنتين الأخيرتين، أي بعد اتفاق أوسلو الشهير وفي عشر عمليات فدائية في »الداخل« أكثر من مئة قتيل، ذهبوا انتقامù للدم المهدور في عمليات المطاردة الواسعة والدائمة للمتمسكين بأرضهم أو للحقوق المهدورة في اتفاق الاذعان الذي شكّل نقطة بداية لطور جديد من الصراع بينما افترض موقعوه أنهم إنما يختمون به هذا الصراع الدموي والمفتوح فوق الأرض المقدسة.
* * *
في السياسة يمكن قراءة العمليتين الجديدتين كخط اعتراض جدي ومؤثر على العلاقة المستجدة، كثمرة للاتفاق المفروض والمرفوض (بنسبة ما يشهد الدم المراق على الورق الحامل التواقيع) بين قيادة إسرائيل والقيادة الرسمية للفلسطينيين، والتي دفعت ثمن انتقالها الى »الداخل« وتولي »السلطة« فيه من موقع »الثورة« الى الموقع النقيض تمامù، فباتت في مواجهة »الثوار الجدد« الذين ورثوا التراث القديم والمتواصل والمتجدد باستمرار.
بهذا المعنى فإن »لوثة الدم« ستصيب القيادتين الإسرائيلية والفلسطينية في آن،
وسيتوطد »التحالف« الهجين موجها المزيد من الضغوط الى الطرف الاضعف، اي »لسلطة« عرفات، لتتحول الى »تابع« ومن موقع شرطة اضافية للاحتلال الاسرائيلي، تطارد نيابة عنه ولحسابه النوايا والعواطف والافكار ومشاعر الثأر والانتقام والجهاد من اجل التحرير في صدور »رعاياها« المتمردين على الواقع الجديد الذي قد يرونه ابشع من حالهم تحت الاحتلال المباشر.
على الجانب الاسرائيلي، كان من السهل على شمعون بيريز، بعد اغتيال »رئيسه« اسحق رابين، ان يوظف لمصلحته عواطف الاسرائيليين المذعورين بالخوف مما يمكن ان يقود اليه »التطرف« الديني السياسي خصوصا وهو الحريص على تقديم نفسه بصورة »المعتدل«، وان يتقدم الى وراثة الزعامة، بينما خصومه في تجمع الليكود محشورون في موقع دفاعي ضعيف يحاولون ان يبعدوا عن انفسهم شبهة التحريض او التواطؤ من خلال الاستغلال السياسي لحادث الاغتيال.
اما الآن فان تلك المعادلة باتت شبه مستحيلة: صورة »المعتدل« تؤدي الى خسارة الانتخابات، وصورة »المتطرف« محجوزة لنتنياهو وكثيرين »على يمينه«، والانتقال يتطلب الكثير من الدم الفلسطيني، لكن هذا الدم الاضافي قد ينسف ركائز اتفاق اوسلو، الضعيفة اصلا، وقد يطوي امر »السلام العادل والشامل« الذي تتمسك به سوريا، ويجعل المفاوضات معها اكثر صعوبة اذ يوسع خندق الدم بين الطرفين، خصوصا ان السوري سيعتبر ان دمه في الخندق وليس دم الفلسطيني وحده، وكذلك اللبناني متى أزفت ساعته للتفاوض.
ولان بيريز هو »مرشح العرب« من اصحاب التواقيع والاتفاقات، شهد العالم امس هذا الاستنفار الشامل في استنكار العمليتين الفدائيتين ودمغ ابطالهما بالارهاب وبتهديد »المسيرة السلمية« وبتعريض مستقبل »التعايش العربي الاسرائيلي« ومشروع »المصالحة التاريخية« لخطر التصدع والانهيار.
تسابق الرئيس المصري مع الملك الهاشمي مع رئيس السلطة في غزة على شجب »القتل« و»سفح الدماء«، وبعثوا بتعازيهم الحارة الى ذوي الضحايا وتمنياتهم للجرحى باستعادة صحتهم سريعا..
اما في »الداخل« فقد استصرحت اسرائيل كل »عربي«: رجال الدين والوجهاء ورؤساء البلديات واعضاء السلطة ومجلسها التشريعي، وصنفتهم حسب طوائفهم ومذاهبهم لتظهر الاجماع في تأييدهم لبيريز وتحذيرهم من استغلال الليكود »هذه الجريمة البشعة«،
الانتخابات اهم من الموتى، ولو كانوا اسرائيليين… وفي حين بدا بيريز مرتبكا فان خصمه الليكودي تصرف »بوقار« رجل الدولة الذي يهتم بالتاريخ أكثر من اهتمامه بالأصوات!. إنه يملك الوقت، ثم انه يستطيع ان ينصب كمينه الانتخابي على مبعدة قليلة من الجثث، بينما على »القائم بالأمر« اليوم ان ينتقم فيخسر، او ان يحافظ على »السلام« فيخسر اكثر…
وبطبيعة الحال توجه بيريز الى عرفات محيلا اليه المهمة القذرة: استئصال »حماس« حتى لا تؤذي اسرائيل بدلا من محاورتها واستمالتها حتى يوطد سلطته، هذا هو الدور الاصلي لسلطته، وهذا هو صوته المرجح في الانتخابات الاسرائيلية.
العربي الميت صوت تماما مثل الاسرائيلي الحي، والاغلبية المطلوبة تحتاج الكثير من جثث »الارهابيين«!
وتبقى مفارقة لافتة: ان اصحاب التواقيع العربية على الاتفاقات الاسرائيلية وكلهم ملكيون! يظهرون حماسة ظاهرة »للاشتراكيين« و»للاشتراكية« في اسرائيل، بينما هم في اقطارهم يحمون بالقمع المطلق انماطا من الرأسمالية المتوحشة او يبتدعون أنظمة أكثر تخلفا من الاوتوقراطية المعتمدة على الحق الالهي في الحكم (وآخر النماذج المأثرة الجديدة لصدام حسين مع صهريه..).
ترى هل يستأهل شمعون بيريز كل هذا الدم العربي المطلوب؟!
وهل بهذه الطريقة يكون الصوت العربي عنصرا مؤثرا في اتجاه »الاعتدال« في الانتخابات الاسرائيلية، ام هو سيتحول الى تجديد الدم في »التطرف« الاسرائيلي؟!
هذا اذا ما امكن التمييز بين »المتطرف« و»المعتدل« في هذا الكيان الذي عاش منذ لحظة استيلاده بعملية قيصرية، وسيبقى يعيش ابدا في ظلال الموت، حتى لو ارخاها على الذين اقيم على حسابهم وحقهم في ارضهم.
في اي حال فالمشهد طريف الآن وسلاطين العرب »المسالمون« يتجمعون للقيام بعملية »استشهادية« مشتركة ضد رعاياهم الرافضين الاحتلال الاسرائيلي وشروط سلامه المهينة.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان