قبل أن يكتمل عام على الغياب يتبدى لبنان وكأنه فقد باستشهاد رفيق الحريري، بكل النتائج الخطيرة التي ترتبت عليه، توازنه النفسي فضلاً عن السياسي، وأضاع طريقه إلى مستقبله بعد سقوط (أو إسقاط) الكثير من الثوابت حتى لا نقول المقدسات التي كانت تحكم وتضبط العلاقات بين أبنائه، ومن بعدها وعلى قاعدتها تقوم سلطته وتبني علاقاتها بجوارها العربي، وسوريا أساساً، ثم بالعالم الخارجي.
لقد فتحت جريمة الاغتيال أبواب جهنم في لبنان وعليه، وعلى سوريا بنظامها و»دورها الاقليمي«، وبلغت التصدعات ثوابت اليقين، فإذا نحن أمام لبنان آخر مختلف اختلافاً جذرياً عن الذي كان قبل عام، ليس فقط في طبيعة سلطته القائمة ووجهته وطبيعة المرتكزات التي تقوم عليها، بل قبل ذلك، وأخطر من ذلك، في طبيعة العلاقات التي تحكم علاقات اللبنانيين بعضهم بالبعض الآخر، قبل الحديث عن سوريا التي أضفيت عليها بعض توصيفات »العدو«، وصار مجرد ذكرها مدعاة لانقسام خطير يصعب ان يحله الحوار بالمنطق وضرورات الحياة.
صار اللبنانيون وكأنهم مجموعة »شعوب« وضعتهم المصادفات التاريخية على بقعة جغرافية واحدة، وقد افترضوا انهم ارتضوا »التعايش« في دولة واحدة، ذات هوية واحدة، وذات منهج سياسي متوافق عليه، ثم انتبهوا إلى ان خلافاتهم أعمق بكثير من هذا التوافق المفترض.
إن صورة لبنان الماضي تشحب حتى تكاد تختفي، مخلية مكانها للبنانات أخرى قيد البحث أو قيد التشكل أو قيد التحضير لأن تفرض بوصفها المستقبل.
كأنما هوية لبنان الوطنية، مثل »الأزياء« الموضة تتبدل حسب المواسم، فتستورد مرة من سوريا ومرة من فرنسا وحديثاً من المصنع الوحيد المؤهل لانتاج »الدول الجاهزة« ذات السيادة والاستقلال والديموقراطية: الولايات المتحدة الأميركية.
كأنما عروبة لبنان طارئة، بل هي عادية عليه ومستعدية، جاءت بها آلية الدبابة السورية، وعليها بطبيعة الحال أن ترحل معها، بكل ما لهذا التوصيف من إهانة للبنانيين الذين أثروا العروبة فكرة ورسالة، والذين كانوا من المبشرين بها حتى في عالمهم العربي باعتبارها طريقهم إلى التحرر وإلى توكيد الذات في مواجهة المحتل الأجنبي سواء أكان مسلماً (الامبراطورية العثمانية) أم مسيحياً (الاستعمار الفرنسي).
ثم إن هؤلاء اللبنانيين، بهويتهم العربية، قد ارتقوا في عيون اخوانهم العرب، ومن ثم العالم أجمع، إلى مرتبة الرواد عبر جهادهم المظفر الذي انجز أهم انتصار في التاريخ العربي المعاصر بإجلاء المحتل الإسرائيلي عن الأرض اللبنانية المحتلة، بدماء الشهداء وبالوعي السياسي وبالكفاءة القتالية المميزة، وبالإفادة من المناخ الديموقراطي في الداخل اللبناني…
… وكأنما يراد لنا اليوم ان نفترض ان عداء إسرائيل مفتعل، قررته جماعة سرية أو عصابة متطرفة تريد إشعال الحرب في الوطن لمصلحة أطراف خارجية!
لكأنها حرب إسقاط المقدسات جميعاً تمهيداً لاستيلاد لبنان الجديد، متحرراً من هويته، متحرراً من عدائه لإسرائيل التي ليست لها تسمية أخرى غير »العدو«، متحرراً من شبهة الاعتراض على مشاريع الهيمنة أو الوصاية الجديدة، الغربية هذه المرة، أميركية فرنسية مشتركة.
إن أفصح من يبشرنا بلبنان الجديد، السيد، الحر، الديموقراطي، المستقل، هم مبعوثو الدول ذات التاريخ الاستعماري الطويل، في الماضي، يتقدمهم مبعوثو الإدارة الأميركية التي يشهد لها إنجازها تدمير العراق وتقسيمه بالفتنة وشطب هويته ودوره كدولة عربية كبرى، بعمق إيمانها بالشعوب وحقوقها في الحرية والسيادة والديموقراطية.
إنها، باختصار، حرب سياسية تخاض على جبهات عدة لنقل لبنان من موقعه الطبيعي إلى موقع مضاد لطبيعته، أي لهويته ورسالته بين أهله.
فتحت ذريعة استخلاص لبنان من الهيمنة السورية نمشي بأقدامنا إلى هيمنة أخرى أشمل وأكثر »عصرية« و»إغواء«، بحيث تسوق البعض إلى المطالبة باحتلال سوريا لإسقاط نظامها من أجل ان ينعم شعبها بالحرية والديموقراطية والاستقلال..
اي أننا لم نكتف »بطرد« سوريا من لبنان شر طردة، بل نحن نطاردها الى داخل دمشق لنفرض عليها ما كنا نتهمها بفرضه علينا من »هيمنة« او »وصاية« بلغت في بعض التوصيفات حد »الاحتلال«.
* * *
لعلنا نعيش فعلاً، الآن، في ما تسميه الادارة الاميركية »الفوضى الخلاّقة« او »الفوضى البنّاءة« والتي تقدم لنا العراق الغارق في الحرب الأهلية المنظمة نموذجاً.
إن »الحرب« الدائرة في لبنان الآن، تحت لافتة »الحوار« لا يمكن ان تأخذنا الى الحلول: حيث لا »دولة«، ولا مرجعية وطنية يسلِّم بها الجميع مصدراً للكلمة الفصل، وحيث يموّه كل طرف موقفه بالشعارات ذات الرنين المسكر..
ولا يحتاج واحدنا الى كثير من الجهد لكي يتبين ان ما يطرح في البيانات والتصريحات والمقابلات التلفزيونية الكونية (حتى لا ننسى المحطات الدولية في الخارج..) ليس هو الحل لمختلف المسائل التي تقسّم اللبنانيين وتحاصرهم في دائرة مغلقة من الخوف: الخوف من بعضهم البعض، الخوف من سوريا، الخوف من الهيمنة الخارجية، الخوف من اسرائيل، الخوف من سقوط الدولة، الخوف من التقسيم وفيدرالية الطوائف، الخوف من »عرقنة« لبنان، والخوف من »عرقنة« سوريا او.. »لبننتها«!
… ويمكن ان نضيف هنا، ومن باب التفكّه لا أكثر، خوف السفير الاميركي في بيروت، جيفري فيلتمان، من كشف بعض »توصياته« او »نصائحه« لبعض المسؤولين بضرورة التخلص من وجود »حزب الله« في الحكومة.. وكل ما فعلته »السفير« أنها نشرت خبراً موثوقاً ومدقّقا عن هذا الجهد المبارك، فاعتبر سعادة السفير إننا نهدد حياته وأننا نوجه مسدساً الى رأسه، في حين اننا نحن اللبنانيين المهددون في وطنهم، وحدته وحريته وهويته، فضلاً عن حياتهم..
للمناسبة: من يصدق ان خلافاً على سطر، سطر واحد، في بيان تصدره الحكومة، يؤكد ما اعلنته في بيانها الوزاري، قد صدع التحالفات الاستراتيجية، بين »رفاق السلاح« الى ما قبل فترة وجيزة، وألغى مفعول التوافقات الانتخابية، وعطل الحكم، وأنذر بفتنة (ولو تبدت محصورة بين المسلمين، للوهلة الاولى)؟!
خلف الاعتراض على هذا السطر تختفي مطالب وأغراض ومصالح هائلة، لا يمكن تلخيصها بالمتداول من أساطير الاتفاقات والمبادرات واللقاءات المنهكة لتبديل كلمة بأخرى أو اضافة »أل« التعريف الى هذه الكلمة او تلك…
للمناسبة: ما هذه الاستهانة بالدور العربي في لبنان، ولو اتخذ شكل مبادرة إنقاذية، او محاولة بريئة لإيصال الاطراف المعنية الى توافق يمكنهم من الخروج من الدائرة المقفلة الى أفق هدنة تمهد لحل المعلق من القضايا المختلف عليها، سواء داخل لبنان او بين لبنان وسوريا.
إن التجرؤ على مبادرات عربية توفيقية، تقودها المملكة العربية السعودية معززة بالجهد
المصري الدؤوب، وبالإرادة الطيبة للأمين العام لجامعة الدول العربية، لا يمكن ان يكون بريئاً ونتيجة تعكر في مزاج بعض القياديين او اختلال في تقديرهم للموازين والأحجام.
ان من يريد اخراج المبادرة العربية من لبنان لا يمكن ان يكون بين من يريدون الخير للبنان واللبنانيين، او يريدون بالفعل تحقيق السيادة والحرية والاستقلال فضلاً عن الديموقراطية.. فمتى كانت السعودية او مصر، فضلاً عن الجامعة العربية، بين اعداء لبنان وبين مناهضي حقه في خياراته السياسية؟
ثم إن هذه الاطراف العربية لم تنصر سوريا على لبنان بعد جريمة اغتيال الحريري، ولم تتهاون في مطالبة دمشق بضرورة التعاون الجدي والكامل مع لجنة التحقيق الدولية؟!
* * *
إن سنة (لما تكتمل) على الغياب، تكشف حجم التغييرات المخيفة التي نجمت عن اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في لبنان، وفي سوريا، أساساً، وفي المنطقة العربية جميعاً.
وليس بالفتنة الداخلية، او بمشاريع التقسيم الطائفية، او بحملة الكراهية ضد العرب ومبادراتهم، او بالتنصل من العروبة، او بإسقاط العداء عن العدو الاسرائيلي، يمكن بناء لبنان الجديد، والتعويض عن خسارتنا الجليلة.
والمهم ألا ييأس منا اخواننا العرب، فينفضّون عنا تاركين للقوى الدولية ان تقرر لنا مستقبلنا.. ومستقبلهم!
هل يسمعنا خادم الحرمين الشريفين والرئيس المصري والأمين العام لجامعة الهموم العربية؟!