طلال سلمان

خارج الزمان..في مدى اليوم الثالث

مع اقتراب الغروب كان الناس يتعجلون موعدهم مع السهر.
بدوا وكأنهم يدفعون اليوم الاخير من السنة دفعا الى باب الخروج من حياتهم: لا يريدون منه الا لحظة الختام. لحظة انطفاء النور، و»هيصة« ولادة اليوم الجديد، العام الجديد، التاريخ الجديد، الخط الجديد، العمر الجديد.
كان الوهم هو السيد: يسيطر على الحركة، مستولدا اشكالا من التوتر والاثارة المفتعلة.
وانطلقت السيارات بالناس، صفوفا صفوفا، الى موعدهم مع المجهول اللذيذ، المفعم بالأمل، والمكتنز بالهدايا.
كانوا مصرين على ايهام انفسهم بما يعرفون انه ليس حقيقيا.
كانوا يصطنعون بهجة لم تتحها لهم ايامهم المكتظة بالشقاء والركض وراء اللقمة، ثم يحاولون الولوج الى داخل لعبتهم وتصديق كذبتهم المكشوفة.
احتلوا المقاعد وراء الطاولات المثقلة بالأطعمة والمشروبات وعدة التنكر.
من الافضل الا تتعرف إليك السنة الجديدة بملامحك الاصلية.
هي تأتي من المجهول، وتحمل المجهول، فلماذا تكشف نفسك لها قبل ان تنكشف عليك.
مع اقتراب اللحظة السحرية كان الالحاح على استثارة الذات قد نجح في اصطناعها، فطفق الناس يدورون بعيونهم على الابواب والنوافذ حتى لاتباغتهم السنة الجديدة فتدخل من حيث لا يقدِّرون، وتمرق من دون ان يروها ويستقبلوها بالزمامير والقبعات المزركشة والأقنعة وصيحات القبائل البدائية.
لماذا يصيحون بوجهها ويرمونها بهذه الاصوات المنكرة؟
هل هو ترحيب، ام ذعر يكشف نفسه في مواجهة المجهول؟ ام انها صيحات تأنيب ولوم وتشييع للسنة المنصرمة تعبر عن الضيق بامتدادها فوق ثلاث مائة وخمسة وستين يوما من أيامهم؟!
ام انه حساب متأخر للنفس؟! يتضمن اللوم والعتاب والتأنيب على التقصير؟ على اضاعة الوقت؟ على القصور؟! على الارجاء او الهرب مما لا مجال للهرب منه؟
اطفئت الانوار متيحة للسنة الجديدة ان تدخل بالوقار المطلوب، فلا هي ترى من ينتظرها ولا هم يرونها، ولا يرون ما تحمل. التعارف في ظل العتمة قد يخلق شيئا من الالفة. انت تعرف، هي تعرف، فلماذا الوضوح. الوضوح قد يفسد الصداقة.
زعق الزاعقون، طبل المطبلون، زمر الزامرون، واختلطت الاصوات مصطنعة ضجة مرعبة. كانت الاصوات قد استعادت الكثير من حيوانيتها. وانزوى الصمت في البقعة المعتمة وقد احتضن الآمال المجهضة ورفات العام الراحل التي توزعتها الاقدام الذاهبة الى اللامكان.
كان ضروريا ان يمر بعض الوقت قبل ان يستعيد الناس اسماءهم وملامحهم والوقار المتناسب مع الضيف الكبير الذي اخذهم اليه متوغلا بهم عبر الزمن المجهول نحو.. ذواتهم.
هدأ الجو. انتبه كل الى نفسه والى من حوله. اصلح كل هندامه. عاد الزوج زوجا، والزوجة زوجة، وعاد التجهم. ولملمت النزوات ولحظات العبث والقبلات الطائرة اشلاءها مخلية المكان لأسرار صغيرة وأوهام كبيرة.
في طريق العودة كان الجميع يتصرفون وكأن وعيهم نائم في انتظار مفاجأة مفرحة في الصباح. وكانوا يعرفون ان ذلك لن يحصل، ولكنهم لا يريدون وأد الأمل.
كان النعاس والتعب وانكشاف اللعبة وخدر المشروب الذي عبوه عبا، والنشاز الذي وقر آذانهم ساعات، وعبث السائقين السكارى والازدحام.. كان كل ذلك يثقل عليهم ويبطئ خطواتهم في اتجاه العام المقبل. وكانوا يعيدون التفكير بالأمر: لماذا تعجلوا رحيل الراحل طالما انهم لا يعرفون شيئا عن الآتي؟! ما الفرق بين يوم وآخر؟!
لقد اشتروا يوما ثالثا بين اليومين… او ربما باليومين.
هل هم يتقدمون الى داخل الجديد؟
ولكن اين هو الجديد؟ السيارة هي السيارة، الطريق هي الطريق، الازدحام هو الازدحام، شتائم السائقين هي »المعزوفة« الدائمة، والوجوه من حولك هي الوجوه وقد ذهب ركام الماكياج ونضارة الناهضين من نوم لذيذ، وعادت التجاعيد والغضون وكأنها سطور ذابت اطراف حروفها فاستعصت على القراءة والقارئ.
كان موكب العودة يمثل قافلة من صائدي الوهم وقد عادوا بلا صيد.
وكان من الصعب الحسم: هل هم عائدون من تشييع عزيز، ام انهم في طريقهم الى موكب التشييع؟
وكانت السنة الجديدة تمد لسانها مع الشمس للذين ارادوا رشوتها بأن انفقوا في استقبالها ما كانوا ادخروه للأيام الصعبة، ثم فتحوا اكفهم يستعطونها من قبل ان تعرفهم او يعرفوها.
كل عام وانت بخير.
كل عام وانت الخير. تعبك الخير. جهدك الخير. عرقك الخير.

 

تضن بك الحياة لانك المعنى

يجيء الفرح مجلببا بالألم.
لا ينفع التشكي الا في قرض الفرح، موسعاً المساحة لمزيد من الالم.
اعظم الافراح هي تلك المستخلصة من قلب الوجع.
يغدو الوجع اطاراً مورداً ومعطراً للفرح المرتجى.
فامتشق شبابك كعاشق عظيم للحياة، كواحد من ابناء الشمس، كنجمة مشتعلة بالامل يزيد بعدها من جلالها، ويظل نورها المختزن وعداً بالخصب لا ينضب له معين ولا يذهب به بعد المسافة.
حيثما تطلعت يزهر الصخر وتتوهج الافكار مشعة بحب الناس وتنبثق الابتسامات من قلب ليالي التعب والهم، فاذا الغد نوارة تحمل ملامحك واسمك.
كنا على رصيف الانتظار، وكان البحر صامتا رائق الصفحة كوجهك. وسمعناه ينطق بصوتك، ولما زمجرت الريح وانطلقت عاصفة سمعنا صوتك وهو يهدر برفض الغلط والتكاسل والتواكل والاستسلام للعجز وكأنه القدر.
القدر؟!
لو انه مثلك، القدر.
لو انه يأخذ عنك فيخفف من اثقالك.
لو انه يعطيك بقدر ما تستطيعين، اذن لاخضر وجه الدنيا وضجت بربيع ولود، يوزع على الناس ثمار جهدهم بغير منة، لانهم مثلك يرفضون الجوائز التي تجيء مثل رشى لتغطية الخطأ وتمويه القصور.
الألم معركة ايضا. تهزمه بالدخول إليه وفتح احشائه والتوغل فيها، ونهزمه ونحن ننظره في عينيه. ان انتظرناه على اسرتنا هزمنا. ان ضعفنا وتهنا في غابة الجبن غلبنا.
للوردة جذع سنديانة. وللفرح جذور ضاربة عمقاً الى ما قبل »آمون« وايزيس واوزوريس. الى ما قبل الميلاد والهجرة. الى ما قبل طوفان نوح.
»نحن خميرة الارض…
نحن الملح ايضا، ونحن الورد، وماء الحياة.
تضن بنا الحياة فتحفظنا لأننا نحن من يعطيها، قبل الرونق، المعنى.
لك بهجة العمر التي اتت بك ثم صرت تلدينها كل يوم«.

 

اللحن الأخير لجوزف صقر

أطلت السنة الجديدة مضرجة بدماء جوزف صقر.
أتراه كان يعرف، ذلك »الولد الشقي« الذي يسري النغم في شرايينه، مسرى الدم؟!
أترى تلك الابتسامة الساخرة التي كانت تطل من عينيه.
أترى ذلك الأسلوب المتميز والفريد في بابه والذي لا تعرف معه اذا كان المكر مصدره او انه هو الرد على المكر الذي تختزنه الأيام وتضخه بسخاء في طريق الذين يريدون ان يعطوا ويملكون ما يعطونه؟
لم ينجح جوزف صقر، ابدا، في ان يكون مطربا، لأنه اكثر من ذلك،
ولم ينجح في ان يكون ممثلا، لأنه لا يعرف كيف يخرج من جلده ليكون الآخر.
وحين انفتحت الأبواب امامه وسيعة لم يعرف كيف يدخل، او كيف يبقى في الداخل لأنه افتقد جمهوره وافتقد ذاته، وأحس انه يلعب دورا هزليا في حفلة تنكرية فصفق الباب وراءه وهو يخرج الى… العوز!
لم يكن مطربا، مع انه اطرب جيلا وجعله يحفظ كلمات زياد الرحباني الجديدة، البسيطة، وألحانه المبتكرة والآتية مباشرة من الشارع.
لقد رحل رجل احب الناس، عاش مع الناس، غنى للناس، ومات كما يموت كل الناس.
لقد غنى جوزف صقر لحنه الأخير فسمعناه جميعا وأشجانا.
وكلنا في »البوسطة« ايها الطيب جوزف صقر.

 

من سرق كوفية الجبل؟

اشفقت على الجبل، أمس: كان عارياً يرتجف برداً، يتوسل إلى الطبيعة ان تمنحه عباءة الثلج.
بدا شاحباً، بل كالح التضاريس والملامح… وكان ينظر إلى البقع الخضراء في السهل المنبسط تحته بكثير من الهم والتحرك: من اين سيأتيها غداً بالسنابل اذا هو لم يستطع ان يملأ شرايينها بماء الخصب؟!
في جهات اخرى، كانت بعض البقاع تتبرج، وتمنح صدرها المفتوح للشمس والهواء طلبا لما يروي ظمأها الى تجديد الحياة.
اذا اختل التوازن صار الدفء جلاباً للزمهرير والجدب.
مَن سرق كوفية الجبل؟!
وكيف يُراد منه ان يتصدى لعاديات الزمان وقد سلبتموه وشاحه النبيل؟!
مَن يعاقب الصوان فيحرمه من شرف الإخصاب؟!.

 

رفقة سفر

تستولدك المصادفة خارج التوقع وداخل الرغبة، فلا يتعبنا اللقاء، ولا يحزننا الفراق، في انتظار موعد ما جديد معلق في أفق مفتوح على المفاجأة.
لا تفيد الثرثرة في تمويه ما يطلبه كل من الآخر.
ليس بعد الساعة الأولى كلام، وليس بعد السفر بغير وداع عتاب.
حكايتنا مياه نهر جارية، وليس لنا على الضفاف حديقة أو خميلة، لكن لنا أن نغب منها ونحن نغذ السير في صحراء العقم ما يكفل استمرارنا في السفر بحثاً عما ندرك سلفاً أننا لن نجده.
هي لحظة انتظار بين قطارين يسافران في اتجاهين متعارضين،
لا يبنى العش في قلب اللحظة العابرة.
ولا ينبت الحب من الرغبة في نفي الوحدة والسكون إلى ثانٍ لكي يشعرك بذاتك.
لا عناوين ثابتة في المنافي، والحباري تصير طرائد متى قاربت المدينة، فإذا أخطأها الصياد نبذه الرجال ولم يتركوا له منها إلا الريش والرأس المفرغ من حواسه.
ولستِ الطريدة، ولست الصياد،
إنما هي رفقة سفر، تجيء جميلة بقوة المصادفة، وتنتهي جميلة لأننا لا نتركها تضيع منا ولا نحن نضيع في إضفاء درامية كاذبة على وهمها الشفاف.

 

من أقوال »نسمة«

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
يسافر الناس طلبا للسعادة في الأمكنة البعيدة. ليست السعادة خلف البعد. ان السعادة لصيقة بهم بحيث لا يرونها، فهي بالاحساس تُرى وتُعاش لا بالعينين.
وقال لي »نسمة« الذي لا يقسم الزمن أياما:
الفرح ليس في الروزنامة. يجيئك من خارج التوقيت الرسمي. هل سمعت بحب يستخدم الساعة؟
الحب هو ساعة العمر، ما قبله انتظار للوعد وما بعده زمان مختلف لا تعرف له بداية او نهاية… فهو المدى كله.
وقبل ان ينصرف، همس لي »نسمة«:
زمانك، في قلبك وليس قلبك في زمانك… فابحث عن زمانك، وان استطعت فاصنعه انت، ولا تترك للمصادفات ان تصطنع لك زمانك.

Exit mobile version