هذا الحوار، »معتّق«، فعمره 34 سنة تقريبا، ولعله كان أول »حوار« يجريه صحافي مع صدام حسين، الذي كان في بدايات العام 1969، شخصية غامضة الملامح، مدموغاً بالقسوة، و»متهماً« باحتكار السلطة من موقع ملتبس يختلط فيه الحزبي بالأمني والسياسي بالاقتصادي.
ومع ان المسافة بعيدة مع تاريخ اجراء هذا الحوار، فإن ملامح الرجل الذي كان »السيد النائب« والذي سرعان ما ألغى الجميع ليحتكر السلطة، بوصفه »القائد الاستثنائي« و»البطل الذي لا شبيه له« و»الزعيم الذي لم تلد النساء له شبيها«، لم تتبدل كثيراً بعد ان تربّع على القمة منفردا وسط مجموعة من المعاونين الذين لا يناقشون ولا يطمحون الى مشاركته السلطة.
هذا الحوار نشر في مجلة »الصياد« بعد لقاء كان فريداً في بابه آنذاك، ولعل بعض ما فيه ما زال يعبّر عن »شخصية« صدام حسين وطبيعة تفكيره اليوم… ومن هنا كان القرار بإعادة نشره هنا..
ملاحظة: يومذاك كان الاسم الرسمي لصدام حسين هو صدام التكريتي، وليس إلا بعد سنة تقريبا حتى صدر الأمر بحذف الألقاب الدالة على الجهات التي أتى منها حكام بغداد بعد ثوارة 3017 تموز 1968، حتى لا تفتضح حقيقة ان أكثريتهم المطلقة »تكارتة«…
ملاحظة ثانية: نعيد نشر الحوار هنا بنصه الحرفي، من دون أي حذف او تعديل او »تصحيح« لبعض الوقائع او الروايات التي ثبت في ما بعد انها لم تكن دقيقة:
أمضيت في العراق أربعة عشر يوما حاولت خلالها أن التقي بالجميع، بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية وعن علاقتهم بالحكم.
ويقتضيني الإنصاف ان أشير الى ان القياديين في حزب البعث الحاكم قد شجعوني على توسيع دائرة اتصالاتي والاطلاع على وجهات نظر سائر الفرقاء، بمن فيهم أولئك الذين يتخذون من الحكم موقفاً يختلف عن موقف الحكم.. وهكذا يمكنني ان أزعم أني عدت بصورة شبه متكاملة للوضع الراهن في العراق: التقيت بالإضافة الى المسؤولين الحزبيين والحكوميين، بممثلين للتنظيمات الشيوعية المختلفة (اللجنة المركزية القيادة المركزية مجموعة اتحاد الشعب الحديثة الولادة)، وبممثلين للتنظيمات »القومية« التي يتزايد عددها يوميا بينما تقل وباطراد عكسي مع الاسف قدرتها في التأثير على الأحداث.
ولقد اخترت أن أبدا عرض حصيلة رحلتي بتسجيل اللقاء مع صدام التكريتي لعدة أسباب أهمها أن هذا الرجل »الغامض« نادرا ما تكلم، ونادرا ما ظهر في المناسبات والاحتفالات العامة، بل ونادرا ما نشرت له داخل العراق أو خارجه صورة شخصية واضحة، رغم الدور الخطير الذي يلعبه سواء على صعيد الحزب، أو على صعيد الحكم، وهو أحد أبرز القياديين على الصعيدين.
؟ صدام: الرجل، وصورته!
خلال لحظات الانتظار في مكتب »الملازم أول فاضل«، بالقصر الجمهوري، كنت أحاول أن أزيل من ذهني كل التصورات التي اجتمعت فيه حول شخصية صدام التكريتي، وأن أسقط كل ما سمعته عنه.. وما أكثر ما يروى عن صدام، وما أكثر ما يقال فيه. كنت أريد أن أدخل عليه بغير ما تصور مسبق، وبغير ما عاطفة محددة منسوجة بخيوط الشائعات والأقاويل، سواء في ذلك المبالغ فيها بدافع الحب أو المغرضة نتيجة الحقد أو رواسب الماضي، وهي جزء أساسي من »الصورة« في العراق..
وفي الممر المغطاة أرضه بسجاد عنابي اللون، مشيت صامتا إلى جانب »رئيس العرفاء« حتى وقفنا بباب غرفة السكرتيريا، وفي النفس بقية شعور بالتهيّب. وعندما عرفني من في الغرفة قال لي أحدهم: رجاء لا تطل زيارتك لأكثر من ساعة، فثمة مواعيد لغيرك بعد ساعة من الآن…
قرعت بابا إلى يميني، ثم فتحته ودخلت لأجد نفسي وجها لوجه معه.
انتصب الرجل واقفا مثل رمح أفريقي، وشدّ على يدي مرحبا، وجلسنا بينما هو يقول:
أظنك تعرف أنني، في العادة، لا أقابل صحافيين. هناك من الاخوان من يتولون هذا الموضوع بعنايتهم. أما أنا فلم أتعود، في الحقيقة، مواجهة الأضواء، ولا أنوي أن أتعود، تلك ليست مهمتي.
قلت: ربما لهذا السبب ارتسمت لك في أذهان الناس صورة الرجل القاسي والغامض. وأصارحك بأني دخلت مكتبك وأنا متهيّب..
ابتسم الوجه الأسمر قبل أن يقول صدام التكريتي:
وهل ما زلت متهيبا، أم أنك رأيتني على غير ما توقعت؟ في أي حال، لست وحدك من تخيلني أني طويل وعريض، وأن بوجهي الضخم ندبات وآثار جروح قديمة وغيرها من ملامح المجرمين المحترفين وسفاكي الدماء. والحق أن ثمة أسبابا تاريخية لهذه الصورة، وليست كلها من مبتكرات الخيال وحده، أو من نتاج شائعات الخصوم والمغرضين فقط.
رنّ جرس واحد من التلفونات الخمسة المرصوفة الى يساره، فتناول السماعة وانشغل بالرد على طالبه بينما رحت أتأمله:
طويل هو، بسيط الملابس، حسن الهندام، وعلى الوجه العربي السمرة ملامح جدية ورزانة تصل الى حدود الصرامة، مع مسحة حزن مقيم، حتى ليكاد يبدو أكبر سنا من شاب في الخامسة والثلاثين. الشعر أسود أجعد، والشفة العليا مختفية تحت شارب كثيف فاحم السواد. أما العينان العسليتان فضيقتان تشعان، على الدوام، ببريق يمتزج فيه الذكاء بمسحة الحزن إياها. وفي الذقن العريضة تلك الفجوة التي تميّز عادة أصحاب الحزم والإرادة القوية.
أعاد السماعة الى موضعها والتفت إليّ فقال:
المصادفات هي التي دمغت اسمي بطابع العنف والدموية. فقبل عشر سنوات، تقريبا، اختارني الحزب ضمن الفريق الذي كلف بتنفيذ محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم. كان من الممكن، بالطبع، أن يحل محلي أي بعثي آخر، فلم أكن الأفضل، أو الأعظم حماسة، أو الأعلى مقاما. كنت مجرد عضو في الحزب، وقد أسعدني حظي فاختارتني القيادة في جملة من اختارتهم لهذه المهمة. ولقد بذلت جهدي لتأديتها بنجاح مع اخواني الذين استشهد بعضهم، في حين يتحمل البعض الآخر مسؤولية قيادية في الحزب أو في السلطة.
تلك كانت البداية، ولعل ما ساعد على ذيوع اسمي بالذات كوني أقدمت على إجراء عملية جراحية لنفسي وفي السيارة التي نقلتنا بعد تنفيذ المهمة. كنت أصبت برصاصة. وكان مستحيلا عليّ أن أذهب، آنذاك، الى المستشفى، أو الى عيادة أي طبيب.. وهكذا لم يكن أمامي إلا أن أستخرج الرصاصة بنفسي. ولقد حاول السائق أن يتجه بي الى المستشفى فمنعته بالقوة، وأجبرته أن يقود السيارة الى حيث يمكننا النجاة بأنفسنا ومعرفة نتائج ما أقدمنا عليه..
؟.. وجاءت فترة النضال السري
عادت الابتسامة الى الوجه الأسمر، قبل أن يستطرد صدام التكريتي كلامه فيقول:
بعد ذلك وقعت جملة من الحوادث، خاصة في الفترة التي أعقبت ردة تشرين، كرست صورتي كدموي في أذهان الناس. كنا مطاردين، كما تعرف.. ولقد رأت قيادة الحزب أن توليني شرف أمانة سر قيادة الحزب القطرية، مؤقتا، وكان مستحيلا عليّ وأنا أحمل هذه الصفة أن أستسلم. كانت السلطة تداهم أوكار الحزب باستمرار، وكان اخواني من المناضلين يقاومون رجال السلطة إذا ما تيسرت لهم سبل المقاومة. ولم أفعل أكثر مما فعله الرفاق، لكن السلطة كانت تركز عليّ بالذات، لصفتي القيادية. وكان رجال السلطة، لتبرير فشل أي هجمة من هجماتهم، يدعون أني إنما كنت في الوكر، وأني قدت شخصيا عملية المقاومة.. وهكذا التصقت بي بعض الصفات التي ليست لي، حتى اني يوم وقعت في أيدي رجال السلطة بعدما جردتني القيادة من السيارة حرصا على حياتي، لم يصدقوا أني أنا صدام التكريتي. كانوا يتخيلونني، من خلال ما سمعوه، أطول وأعرض وأضخم، ولعلهم كانوا يتصورون أن يروا سكينا بين أسناني، وفي يدي بعض القنابل!
قلت لأبي عدي:
وبعد 30 تموز استمرت الصورة عالقة في الذهن لأنك حرصت على عدم الظهور…
قاطعني وهو يجيب:
تلك طبيعتي. ربما كان هذا بتأثير فترة عملنا السري، وهي طويلة نوعاً ما، ولكن صدقني اني بطبيعتي لا أحب الظهور، ثم اني لا أملك ما أقوله للناس، ان اخواني ورفاقي يظهرون، ويخاطبون الجماهير، وينقلون إليها رأي الحزب وموقفه، فما ضرورة ظهوري أنا الآخر؟ اننا مجموعة من الشباب العربي المؤمن، بيننا من يفهم في السياسة الخارجية، وبيننا من له إلمام بالاقتصاد، وبيننا النقابي، وبيننا الأديب أو المهتم بشؤون الثقافة… ولقد توزعنا كل في المجال الذي يستطيع فيه أن يعطي أفضل ما عنده.
؟ عين منظمة »الحنين« والحزب…
قلت بعدما زايلني التهيب تماماً:
تعرف طبعاً ان اسمك قد ارتبط بمكتب الأمن القومي، او بما يمكن تسميته جهاز الاستخبارات الخاص بالحزب… وهذا ما جعلك في اذهان العامة رجلاً يلفه الغموض، بالإضافة الى سمات القسوة والدموية المكتسبة سابقاً..
عرض عليّ صدام سيكارة، وابتسم مجدداً وهو يقول:
أما الغموض فلست أدري ما أقول فيه. هل تراني غامضاً، أنت؟ في أي حال أظن اننا تحدثنا أكثر مما يجب عن شخصي، فلننتقل الى موضوع آخر.
لقد تحدثت عن استخبارات الحزب، دعني إذاً أحدثك بصراحة عن هذه النقطة.
من حيث المبدأ فلكل حزب جهاز استخباراته الخاص، وهذا ليس عيباً بحيث يضطرنا الى مداراته بالصمت أو الغمغمة. وبالنسبة لنا فإننا جميعاً، وكل في مجاله، أعضاء في استخبارات الحزب… أي في الحزب: كل منا يرفع الى قيادته تقارير: بما رآه أو عرفه أو سمع به. ثم اننا الآن في السلطة، أي اننا مسؤولون عن العراق كله. وبصراحة أقول لك: إننا لا نثق كل الثقة في أجهزة الدولة بكل من وما فيها. ونحن في الأمور الحساسة لا نكتفي بالمعلومات الرسمية التي تقدمها الينا الادارات الحكومية، وإنما نرجع الى معلومات الحزب قبل اتخاذ القرار المطلوب.
قلت: وما قصة منظمة »الحنين«!
قال صدام التكريتي وقد اختفت الابتسامة عن صفحة وجهه:
لقد قرأت ما كتبته بعض الصحف اللبنانية حول وجود مثل هذه المنظمة، وحول مسؤوليتي الشخصية في قيادتها… هذا الكلام لا يعكس حقيقة، وإنما هو يعكس موقفا سياسياً معادياً لنا. اننا نتولى مقدرات البلاد كلها، وليس ثمة ضرورة لأن نتصرف في الخفاء. ولو اني شخصياً اتولى مثل هذه المسؤولية لما كان ما يعيبني، على العكس كنت سأجد فيها شرفا.
صمت صدام لحظة ثم اكمل فقال:
لقد نشرت حكاية منظمة »الحنين« في أعقاب اغتيال ناصر الحاني، وقيل إن الحزب تولى تصفية هذا الرجل ولذا فقد طمست معالم القضية كلها. دعني اتساءل هنا: ما مصلحة الحزب في مثل هذه العملية غير المبررة؟ من هو ناصر الحاني وما خطره على الحكم أو على الحزب؟ لقد كان الرجل موظفاً، وارتضينا نحن، ولأسباب ظرفية، ان يولى منصب وزير الخارجية في الحكومة الأولى التي انبثقت عن حركة 17 تموز… ثم عزلناه من الوزارة، وبمنتهى الهدوء، في 30 تموز وأعدناه الى السلك الدبلوماسي…
ناصر الحاني ليس منافساً لنا، بل هو ليس سياسياً على الاطلاق، فلماذا نقتله؟
إننا الحاكمون، ولو كان لنا على ناصر الحاني ما نلومه عليه لاعتقلناه وحاكمناه. إنه ليس أقوى من البزاز، أو من العقيلي أو غيرهما. ثم ان الطريقة التي مات بها تؤذي الحكم وتشوّه سمعته بالطبع كان هناك تقصير في كشف الجناة، لكن هذا لا يبرر اتهام الحزب.
توقف »أبو عدي« عن الكلام فترة رد فيها على هاتف آخر، ثم عاد الى نفس الموضوع، قال:
أما قضية عبد الكريم مصطفى نصرت فليست واردة أصلاً. وسامح الله اخواننا السوريين. لقد كانت حادثة شخصية. وكان الأفضل لذكرى عبد الكريم وتاريخه ان تطوى بهدوء. والكل يعرف أن ليس لنا علاقة بها من قريب أو بعيد. والكل يعرف أيضاً ان علاقة مصطفى نصرت بنا، بالحزب وبالحكم، ظلت ممتازة حتى وفاته… لكن بعض الأخوان في دمشق، رأوا فيها، ولأسباب تخصهم وحدهم، ورقة يشاغبون بها علينا، مما اضطرنا الى التوضيح، بينما كنا نفضل لو ظلت القضية في إطارها الطبيعي، رحمة بهذا الرفيق القديم.
؟ عن عبد الناصر والحلول السياسية
كان محمود رياض، وزير خارجية العربية المتحدة، قد وصل الى بغداد عشية لقائي بصدام التكريتي… وكان طبيعياً ان أسأل عن مهمة رياض، وأن يمتد الحديث ليشمل كافة جوانب الوضع العربي الراهن، وقال صدام:
نحن نعرف ان السياسة لا تقوم على العواطف، ونحن نعتمد في أحكامنا على الآخرين التحليل وليس التخمين أو التقدير المنبثق من عاطفة وود او من كراهية وحقد. على هذا يمكنني القول اننا، في العراق، نعرف بالتحليل العلمي ان الرئيس جمال عبد الناصر لا يمكن ان يوقع على أي حل استسلامي لمشكلة الاحتلال الاسرائيلي الناجم عن حرب 5 حزيران.
ان تاريخ الرجل كقائد قومي، وكصاحب تجربة ثورية قدمت الكثير الى الحركة الثورية العربية في تاريخها المعاصر، يقطع باستحالة قبوله بالحلول الاستسلامية، ونحن، للمناسبة، لسنا ضد الحل السلمي بشكل مطلق. اننا ضد التسويات السياسية، ولقد صدرت تعليمات محددة الى كافة المسؤولين، خاصة في المجال الإعلامي، بالتوقف عن مهاجمه الحل السلمي، والتركيز على رفضنا للحلول التصفوية والاستسلامية. ولو توفر حل سلمي مشرف لرضينا به قطعا، بل اننا، نحن العرب، دعاة مثل هذا الحل.
من جهة اخرى فإن موقفنا الواضح، والمتمثل في رفضنا لقرار مجلس الأمن، ولسائر مشاريع الحلول المطروحة حتى الآن، لا ينبع من رغبة في المزايدة على عبد الناصر او على غيره… اننا نفهم موقف المتحدة والجهود الدبلوماسية التي تبذلها. وفي اعتقادنا ان موقف العراق الراهن يخدم القضية العربية، ويخدم موقف المتحدة ذاته. اننا نعرف جميعا ان ثمة ضغوطا تمارس الآن على الرئيس عبد الناصر لفرض بعض المشاريع عليه، ونحن بموقفنا نمكنه من القول لممارسي الضغط: اذهبوا اولا فاقنعوا العراقيين، او الجزائريين، وبعد ذلك يمكننا ان نتفاهم.
هو، قطعا، يتعرض لضغوط اقسى من تلك التي نتعرض لها هنا في بغداد. ونحن نفترض ان كلامنا يفيده في موقفه ويمنحه قدرة للمناورة والتصرف، ويمكنه بالتالي من التمسك بالحق العربي الصريح سواء في موضوع ازالة آثار العدوان، او في قضية فلسطين عموما.
؟ عن الجواسيس وتعليقهم
جاؤونا بالشاي… وقمت أعرض على صدام سيكارة فاعتذر عمن قبولها وعن نسيانه:
لا تؤاخذني، أنا لا ادخن، ولذا لا انتبه لتقاليد المدخنين.
قلت، منتقلا الى موضوع آخر:
لقد سمعت عتابا من الجميع حول تقصير الصحافة العربية في موضوع اعدام الجواسيس بالعراق، ولعلكم محقون في الكثير مما تقولونه… لكن لنا، في ذات الوقت، كلمة عتاب، فهلا سمعتها؟!.
قال صدام: تفضل…
قلت: لقد جاءني خبر الاعدامات فجأة، وعبر الوكالات الاجنبية التي نعرف وتعرفون حقيقة عواطفها حيال العرب وحيال اسرائيل، ولم يكن بالامكان الرد على الحملة الصهيونية الشرسة التي شنت ضد العراق بغير المقالات ذات النبرة الخطابية…
قال: وماذا يتوجب علينا؟
ان تضعونا في الجو.
ولكننا اذعنا المحاكمات عبر راديو بغداد وعبر التلفزيون.
نعرف ان اذاعة العراق لا تسمع الا بصعوبة بالغة خارجه… وفي ايامنا هذه فإن الصحف لا تلجأ الى متابعة الاذاعات الا في حالات استثنائية فالوكالات تتولى تغطية كل الانباء، دقيقة بدقيقة.
قال صدام مبتسما:
لا تؤاخذونا، ولكننا حديثو عهد بالحكم، ولا نتقن اصول اللعبة الاعلامية. ولكن هذا لا يبرر ان يشارك بعض اخواننا العرب في استنكار ما اقدمنا عليه…
لقد استنكر بعضنا الاسلوب، او الشكل، ولم يستنكر اي منا الاعدامات بحد ذاتها. ان تعليق الجثث في الساحات العامة أمر لا يقبله عالمنا، خاصة ان اكثرية المحكومين كانوا من اليهود.
قال صدام التكريتي:
اننا لم نعلق الجواسيس في ساحة التحرير للاستمتاع بمنظر جثثهم الكريهة، كان ثمة اسباب لهذا التصرف، فمعظم هؤلاء ممن قبض عليهم وأدينوا بجرم التجسس لصالح اسرائيل في العهود السابقة… ولامر ما أفرج عنهم سرا. وكان الكل يشك في اننا سننفذ أحكام الاعدام بحقهم. كان الرأي السائد حتى عندما عرضنا المحاكمات على التلفزيون، ان الحكم لن يجرؤ على التنفيذ معرضا نفسه لصدام عنيف وشرس مع قوى الصهيونية والاستعمار، من الاقوال الشائعة هنا »ان العراق يعوم على بحرين: البترول والجواسيس«. وهذا، إلى حد بعيد، صحيح. وكانت الحكومات في العهود السابقة تتحدث طويلا عن اعتزامها مكافحة التجسس والجواسيس، ثم لا تفعل شيئا في هذا المضمار.
كنا مطالبين بأن نعيد الى المواطن ثقته بالحكم، وبقدرة هذا الحكم على التنفيذ. وهكذا لم يكن ثمة مناص من تعليق جثث الجواسيس ليراها جميع الناس، وليدرك العالم اجمع اننا لن نتراجع واننا عازمون فعلا على تطهير أرض العراق من الخونة والجواسيس.
صمت صدام التكريتي للحظات، ثم ابتسم وهو يقول:
لو كنت في بغداد يوم تنفيذ الحكم لرأيت شيئا عجبا. لقد خرج كل الناس الى ساحة التحرير، بل ان آلافا من المواطنين باتوا في الساحة.. وفي الصباح انطلقت التظاهرات ضخمة وحاشدة، وظلت تطوف بأنحاء بغداد حتى الظهر.
لم يكن ذلك، كما حاولت الدعايات الصهيونية تصويره، تشفيا عربيا باليهود، ولم يكن أيضا تعبيرا عن »شبق العراقيين الى الدم«، كما قال الاعداء.. بل كان ذلك كله تعبيرا صادقا عن فرصة الشعب بقيام حكم وطني قادر، بدليل انه اعدم من ادين بتهمة التجسس غير عابئ بردود الفعل الإسرائيلية والاستعمارية.
قلت: ليس بقصد الاعتذار وإنما بقصد التوضيح اقول لك ان الصورة وصلت الينا في بيروت، ونحن على مرمى حجر من بغداد، مشوشة فكيف بالبعيد..
قال: نحن نقدر هذا، ونعذركم.. في نفس الوقت فإننا نطالبكم بأن تتجاوزوا في تعاملكم معنا الشكليات. لا تحكموا علينا من خلال المظاهر، فنحن لا نتقن اصول الاخراج، وإنما احكموا علينا من خلال الأعمال ذاتها مع الأخذ بعين الاعتبار ظروف العراق والاخطار التي تحدق به.
؟ عن المؤامرة والبزاز وشمعون…
قلت لصدام التكريتي: دعنا نستكمل تفاصيل صورة ما غمض علينا، إذاً..
قال: هات ما عندك، وأنا مستعد لتوضيح كل قضية يتصل بي أمرها..
لماذا تعتقلون عبد الرحمن البزاز وعبد العزيز العقيلي؟
انهما متهمان في مؤامرة كانت تستهدف قلب نظام الحكم، وإذا ما ثبتت براءتهما خلال المحاكمة فلسوف نفرج عنهما. لكنهما الآن قيد التحقيق.
وما علاقة كميل شمعون وهنري فرعون وقريب كامل الأسعد بهذه المؤامرة؟
لا نعرف بالضبط. لقد ذكر أحد المتهمين المعتقلين، وهو عبد الهادي البجاري، هؤلاء جميعا كأطراف في المؤامرة.. والتحقيق لم ينته بعد، والتهمة ما زالت بالتالي بحاجة الى ما يثبتها. وساعة تتوفر في أيدينا الأدلة فلسوف نعلنها على الملأ. اننا لم نتراجع عن اتهامهم، كما صورت بعض الصحف اللبنانية، ولكننا اوضحنا اننا لسنا من يتهمهم. هذا كل ما في الأمر.
وهل يمكنني أن اقابل البزاز والبجاري؟
فكر صدام التكريتي قبل أن يجيبني:
البجاري نعم، فهو محكوم بالاعدام لعلاقته بشبكة التجسس الإسرائيلية الأولى أما البزاز فلا.
ولم لا؟.. ان الدعايات الاستعمارية تركز الآن على ان الرجل فقد بصره في السجن، وعلى انكم تسيئون معاملته، فلماذا لا تدحضون هذه التهم بشكل قاطع؟
حدق فيّ »أبو عدي« مليا، ثم قال وهو يرفع سماعة التلفون ليطلب رقما سريا:
حسنا. ستقابل البزاز. وبعدما تراه وتتحقق من سلامة نظره، وسلامته عموما، اكتب قناعتك..
وانبسطت أساريري وأنا اسمع صدام التكريتي يصدر تعليماته لمن يعنيهم الأمر باصطحابي لمقابلة البزاز فور انتهائي من مقابلته هو، بينما وعد بأن تتم مقابلتي للبجاري في اليوم التالي.
نشرت مقابلة البزاز في عدد »الأنوار« الصادر يوم الأحد قبل الماضي، أما مقابلة البجاري فقد نشرت في العدد السابق من »الصياد«.
؟ عن حسيب والجادر وما عليهما…
التفت إليّ صدام وتساءل مبتسما:
ماذا تريد أيضا؟
قلت بسرعة: ان اقابل خير الدين حسيب وأديب الجادر.
اربد وجهه، واختفت معالم الابتسامة، ثم قال بهدوء:
أما هذا فلا..
ولماذا؟
الأمر مختلف هنا، دعني اشرح لك بعض جوانب القضية. هناك الخطأ، والخطأ الجسيم، وهناك الخيانة، وبالنسبة للعهد السابق فلقد كانت أمور البلاد جميعا ومصالحها الأساسية مرتبطة برجلين أولهما خير الدين حسيب، باعتباره المخطط والمهيمن على شؤون الاقتصاد والنفط والصناعة، وثانيهما طاهر يحيى.
قلت: أما طاهر يحيى فقد سمعت عنه ما يكفي، ولم اسألك السماح لي بمقابلته.
قال: نتحدث إذاً عن خيري حسيب، سأضرب لك أمثلة محددة من تصرفاته التي نرى فيها ما هو أكثر من الخطأ.
{ أولا مشروع تعبئة الغاز. ان الدراسة المتعجلة لهذا المشروع تثبت انه كان أمام القيمين عليه واحد من خيارين، في الاختيار الأول يكون المشروع مفيدا، على الصعيد الاجتماعي، ومربحا على الصعيد الاقتصادي، إذ يحقق وفرا في حدود مليون ونصف مليون من الدنانير سنويا. أما في الاختيار الثاني فيفقد المشروع فائدته الاجتماعية ثم انه يضحى خاسرا، إذ يكبد خزينة الدولة ما يزيد عن مليون وربع مليون من الدنانير سنويا.
لأمر ما، بدأ تنفيذ المشروع في إطار الاختيار الثاني. لماذا؟. ذلك هو السؤال الذي يحاول التحقيق الآن توفير الاجابات المقنعة عليه.
{ ثانيا مشروع بناء معامل تكرير النفط.
لأمر ما، ودون ان ندخل في التفاصيل لأنها تمس أمن العراق وسلامته العامة، قرر خير الدين حسيب ومن معه ان تبنى هذه المعامل في منطقة لا يمكن حمايتها، علما بأن بناءها هناك يفقدنا مركز قوة نحن الآن فيه، بغير مبرر واضح. لماذا؟! هذا سؤال آخر فيفترض ان يوفر له التحقيق جوابه الحاسم.
{ ثالثا اتفاقية ايراب لاستغلال حقول شمالي الرميلة.
مع اعترافنا الكامل بأن هذه الاتفاقية كانت خطوة ممتازة حققت للعراق فوائد عميمة، إلا اننا نعتقد انه كان بالامكان الحصول على شروط أفضل من ايراب ذاتها..
ثم ان ثمة حقيقة أساسية ضاعت وسط الضجة الاحتفالية التي اثيرت حول اتفاقية ايراب. تلك الحقيقة ان العراق لا يحصل من شركة الاي.بي.سي. والشركات الأخرى التي تستثمر الآن حقوله، على الحقوق البسيطة التي كفلتها له الاتفاقيات ذاتها. لماذا اغفلت هذه القضية ولم تول ما تستحقه من عناية هذا سؤال ثالث ننتظر ان يوفر لنا التحقيق جوابه الفعلي.
قلت: ولماذا لا يسمح لي بمقابلتهما واستيضاحهما حول هذه النقاط؟..
ابتسم صدام التكريتي وهو يقول: أتريد ان تصبح الهيئة التحقيقية التي تتولى النظر في هذه الأمور عاطلة عن العمل؟. ان التحقيق لم يكتمل بعد.
؟ عن الأستاذ ميشال وذكرياته العراقية..
قرع الباب وأطل رجل فبادر صدام:
لا بأس، ارجئ الأمر بعض الوقت…
ثم التفت إليّ موضحا ما يعنيه، قال:
أنا اشكو من قرحة في المعدة. ولقد الزمني الاطباء بأن اتناول طعامي في مواعيد ثابتة.
قلت معتذرا: فليحمل إليك طعامك، اذاً…
قال مبتسما: لا عليك، فلنكمل حديثنا. ماذا لديك بعد من اسئلة؟
قلت بسرعة: اود ان اسأل عن الاستاذ ميشال عفلق. لقد افترض البعض، عند خروجه من لبنان، انه انما قدم الى هنا، او انه في الطريق اليكم…
قال صدام التكريتي وقد اكتسى وجهه الاسمر بملامح الجدية، وعادت تلمع في عينيه مسحة الحزن المقيم:
الحقيقة اننا حريصون جدا على رؤية الاستاذ ميشال معنا هنا في بغداد. بل اننا نعتقد ان مكانه الطبيعي، في هذه المرحلة، في العراق. ولقد اكدنا حرصنا وقناعتنا هذين خلال اتصالاتنا به، سواء يوم كان في بيروت او قبل ان يصلها قادما من البرازيل.
وإذا كان يؤسفنا ان يكون للاستاذ ميشال وجهة نظر اخرى في هذا الموضوع، فإن هذا لا يعني ولا يجب ان يعني ان يتخذ من الحكم موقفا معارضا او متحفظا.
قلت: لقد اجتمعت قبل فترة الى الاستاذ ميشال في بيروت، وتحدثنا طويلا وفي مواضيع كثيرة…
وسألني صدام:
هل تحدث عن العراق؟
قلت: لم يكن اللقاء ذا طبيعة صحفية، ولست في حل لاذاعة تفاصيله… على انه يمكنني القول ان العراق لم يكن بين مواضيع الحديث.
اطرق ابو عدي لحظات قبل ان يقول:
تعرف ان تجربة الحزب في العراق، بعد ثورة 14 رمضان، قد انتهت نهاية قاسية. ولقد تركت تلك النهاية آثارا سلبية على الكثير من المناضلين والرفاق الحزبيين. من تلك الآثار ان البعض ترك الحزب كلية، في حين ان بعضا آخر سقط على طريق النضال، بينما اكمل آخرون المسيرة.
وبالنسبة للاستاذ ميشال عفلق فإن ذكريات ردة تشرين، وانعكاساتها عليه، ما زالت طرية في ذهنه، وهي تتحكم الى حد بعيد في موقفه الراهن منا. لقد لجأ خصومنا، كما تعرفون، الى آثارة كل الحساسيات، الاقليمية منها والعنصرية والطائفية، وصوروا اخواننا في القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي وكأنهم يتدخلون في ما لا يعينهم!.
طبعا هذا لم يؤثر فينا، نحن الحزبيين، فحزبنا قومي الفكر، قومي المنطلقات، قومي في العمل والممارسة، ومن الطبيعي ان يكون لاخواننا ابناء الاقطار الاخرى رأيهم في تجربتنا، خصوصا انها ستعكس نفسها سلبا او ايجابا عليهم جميعا في كل اقطارهم، وبكلمة: على الوطن العربي كله. لكنما الاستاذ ميشال يتصرف الآن وكأنه يريد تجنيبنا تكرار مثل تلك المشاكل التي لم يكن لها عمليا، ما يبررها، والتي كان شخصيا اول ضحاياها.
رن جرس واحد من التلفونات فرفع صدام التكريتي السماعة ووضعها جانبا، ثم اكمل كلامه قائلا:
في اي حال نحن على ثقة من ان الاستاذ ميشال سيغير رأيه، وسيأتي ليقيم في المكان الطبيعي الذي يجب ان يكون فيه الآن: بغداد.
لا يجوز ان يبقى هذا الرجل الذي اعطى الامة العربية الكثير الكثير ممنوعا من الاستقرار فوق ارض وطنه العربي الكبير. ولا نقول هذا الكلام بدافع من تقديرنا واخلاصنا ووفائنا لميشال عفلق الشخصي، وانما نقوله بدافع من ايماننا بأن امتنا لا يمكن ان تجحد فضل ابنائها، او تهدر قيمة مفكريها وبناة نهضتها الحديثة.
صمت صدام التكريتي لحظات، ثم التفت اليّ وقال:
اننا نقدر الحالة النفسية التي يعاني منها الاستاذ ميشال الآن. ونحن لا نريد ان يأتي لنتعبه معنا وبمشاكلنا. ميشال عفلق قائد فكري، وكل ما يطلب منه يجب ان ينحصر ضمن هذا النطاق. أنا، على سبيل المثال، من طبيعة مغايرة. أنا عملي. لكن العمليين يحتاجون باستمرار الى امثال ميشال عفلق. اننا نريده ان يأتي، ويكفينا منه ان نسأله الرأي في ما يجب عمله، خصوصاً في القضايا الاساسية. يكفينا منه ان يعطينا رأيه مرة كل ستة اشهر. فليست مهمة ميشال عفلق ان يغوص في تفاصيل التصرفات اليومية والعادية والروتينية، وإنما دوره في التخطيط وفي التقييم، وهذا اخطر بطبيعة الحال من دور المؤدي او المنفذ.
؟ نحن أيضا نبحث عن الأجوبة…
قرع الباب من جديد، ورن جرس هاتف ثالث… وتذكرت اشتراطهم، عند الباب، الا اطيل مكوثي عند صدام اكثر من ساعة، فوقفت. قال ابو عدي:
هل ما زالت لديك أسئلة؟
قلت: الاسئلة لا تنتهي، لكن الاجوبة التي نلتها تكفي الآن.
قال: ارجو ان تتيح لك اقامتك في العراق العثور على الاجوبة الناقصة.
انفتح الباب ودخل ملازم اول، فقال لي صدام:
الطريق مفتوحة امامك للوصول الى البزّاز… فنحن نريدك ان تعثر على الاجوبة، وصدقني اننا اكثر الناس دأبا في البحث عنها…
ودعت الرجل الحازم وخرجت، وعند الباب لقيني مرافقه فأشار الى الساعة معاتبا… والتفت فإذا بي اكتشف انني انما امضيت معه اكثر من ساعتين ونصف ساعة. وشددت على يد المرافق وأنا اقول:
اسف، ولكن ما في كل يوم يمكننا ان نلتقي بصدام…
وابتسم الرجل، بينما خبط المظليون المحيطون بالمدخل أقدامهم في الارض، ورفعوا ايديهم بالتحية للملازم الاول الذي لم يكن يبدو سعيدا بالمهمة التي كلّف بها: مرافقتي لمقابلة عبد الرحمن البزاز.
وتبقى لي كلمة اخيرة هنا: فثمة بقية لحديث صدام التكريتي، ولكني فضلت عن ابقيها لاستعين بها على رسم الخريطة السياسية للعراق، لانها اكثر ارتباطا بها… فإلى »صياد« مقبل.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
حوار عمره 34 سنة مع »السيد النائب« الذي يحكم العراق منذ 1968 لقاء مع صدام حسين (التكريتي) أعرف أن لي في الأذهان صورة البطّاش والدموي .. وليس من المعيب أن يكون للحزب مخابراته الخاصة..
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان