فرضت فوضى التطرف ذي الشعار الديني على اللبنانيين أن يعيشوا مرة أخرى في قلب الخطر على وحدتهم وعلى مصير وطنهم، وهم يرون الفتنة تنشب مخالبها، أمس، في جوانح عاصمتهم التي طالما اعتزوا بها حاضنة لجميعهم، كمواطنين، لطموحاتهم وأحلامهم وجدارتهم بالدور الطليعي الذي يلعبونه في دنياهم العربية، متباهين بها كمنتدى ثقافي واقتصادي وكمطبعة وكتاب ومركز إعلام واستنارة وكشارع مفتوح للتعبير عن الطموح إلى الديموقراطية والتقدم على قاعدة من وحدتهم الوطنية التي صمدت للكثير من الزلازل السياسية.
وبلغ خوف اللبنانيين ذروته وهم يرون الفتنة تقتحم المقدسات فلا يحدّ منها الاحترام البديهي لمراكز العبادة، ولا يوقفها التهيّب أمام الإضرار بمؤسسة عامة دفع الشعب أكلافها من عرقه، أو الاعتداء على ملكية خاصة بناها الجهد الشخصي عبر سنوات التعب والغربة.
كان المشهد، بوقائعه الميدانية منذراً بالأسوأ، مما سمح باستعادة الذكريات السوداء عن الحرب الأهلية، التي مدها الاستغلال السياسي للمشاعر الطائفية حتى غدت دهراً فشطرت الدولة والشعب والأرض، وجعلت »المسلمين« يقفون في مواجهة »المسيحيين« والعكس بالعكس، وكأنهم أعداء، في حين أنهم شركاء في الحاضر والمصير، وسمحت لكل دول العالم أن تمد أيديها إلى أحشاء الوطن الصغير فتقتطع كل منها بعضه، سواء تحت عنوان طائفي مباشر أو تحت عنوان سياسي مموّه للحقيقة، مما أطال أمد الدهر لخمس عشرة سنة أو يزيد… والتي أوقفت فتوقفت لاكتشاف أطرافها جميعاً، من اللبنانيين، أنهم محكومون بالوحدة لأنها سبيلهم إلى الحياة:
متظاهرون بشعار إسلامي صريح، وبعاطفة غضب متأجج نزلوا إلى الشارع كما نزل أقرانهم إلى شوارع العواصم القريبة والبعيدة محتجين على الإساءة الدنماركية إلى النبي العربي ودينهم الحنيف.
.. ولأن القنصلية الدنماركية تقع في منطقة خلف »خط التماس« القديم والغالبية الساحقة من سكانها من أخوتهم »المسيحيين«، فلقد كان يكفي أي سوء تصرف أو أي سوء تفسير أو أي خروج على الانضباط، لكي يقلب الوضع رأساً على عقب، فيبدو وكأن »المسلمين« يقتحمون على »المسيحيين« أحياءهم ومنازلهم… فإذا ما أفلت الزمام وارتكب بعض الغوغاء جريمة الاعتداء على كنيسة مار مارون، كما حدث فعلاً، توفرت الفرصة أمام مستثمري الأخطاء من أجل أغراضهم السياسية للإفادة من جو ثورة الغضب لكرامة الدين…
لكأنما الإساءة إلى »المسيحيين« في لبنان تعوّض الإهانة الدنماركية للمسلمين!
.. وامتلأ الفضاء بتصريحات الاعتذار في مواجهة الغضب الذي يمكن تحويله إلى استثمار سياسي من الدرجة الأولى…
أخلى المتظاهرون الشارع بعد صدامات بائسة مع قوى الأمن، وأخطر منها: مع الرأي العام الذي كان يتقبّل استنكارهم للإهانة الدنماركية، ثم انقلب ضدهم حين تبدى وكأنهم قد هددوه في أمنه ورزقه، وكذلك في وحدته الوطنية التي لا تنفك تتلقى الضربات من مجموع مستثمري الطائفيات والمذهبيات في الغرض السياسي.
.. ولأن الغرض السياسي قد بقي في الشارع، بعد الاعتذار الجماعي، فقد تحوّل الموضوع إلى أمر آخر: هذه الجريمة من فعل مندسين، وللمندسين هوية واحدة هي سورية ومعهم فلسطينيون يصدعون بالأمر السوري. ومثل هذا الاتهام لا يحتاج إلى دليل إثبات!
* * *
الوقائع عادية، ويمكن أن تشهد مثلها أي عاصمة، وخصوصاً أن الجميع يشتركون في استنكار الإهانة الدنماركية للمسلمين… لكن الفارق هو في وجود أو انعدام الدولة القادرة على تمثيل الشعب بفئاته جميعاً، وتولي المسؤولية عن التعبير عن رفض الإهانة، مباشرة.
ولقد اكتشف اللبنانيون، مرة أخرى، أمس، أن دولتهم معتلة، وأن السلطة المركزية أضعف من أن تمسك بزمام الأمور، لخلل بنيوي فيها.
إن الحكم مشلول الرأس، والحكومة فاقدة لتماسكها بسبب اختلاف أجنحتها على السياسة العامة، سواء منها ما يتصل بالهوية والدور أو ما يتصل بالإصلاح وضرب الفساد… وعلى امتداد الشهرين الماضيين قال بعض الحكومة في بعضها الآخر ما يلغي أي افتراض لقدرة هذه الحكومة على الإنجاز.
إن الوضع على قمة السلطة طريف ووحيد في بابه: تجمع الأغلبية يريد خلع الرئيس ولا يقدر، ويحاول إقامة حكومة من أطرافه فيعجز، فيلجأ إلى تحالف الاضطرار مع فريق سياسي يعترض على نهجه وشعاراته وتحالفاته السياسية… وخصوصاً أنه يهرب من تحالف اضطرار آخر مع فريق يفترض في نفسه أنه يمثل أكثرية المسيحيين بشهادة الانتخابات.
الحكومة على هذا تحمل تناقضاتها في قلبها، وتستولد معارضاتها من محاولاتها عزلهم.
وإذا كان رئيس الحكومة قد نجح في تقديم
نفسه كرجل دولة، فهو ما زال يفتقر إلى الدولة… وهو قد نجح أيضاً في أن ينال قبول »المعارضين« لشخصه، لكنهم لم يقبلوا حكومته. ثم أن حكومته حكومات تتهاوى أمام تناقض أغراضها ومصالح الأكثرية العددية التي ينفرط عقدها عند طرح أي موضوع جدي سواء اتصل الأمر بمصير رئيس الجمهورية، أم بشروط الإصلاح المنشود… بل ولقد استنقذت بمسلسل من العجائب مع كل تعيين في أي موقع أمني، في حين تتهددها مخاطر التعيينات في الإدارة العامة، فضلاً عن القضاة والسفراء والمجلس الدستوري إلخ…
يتصل بذلك أن »القادة الكبار« قد سجنوا أنفسهم، أو سجنهم الخوف من الاغتيال، في قلاع محصنة… والحوار في ما بينهم يتم بالواسطة لتعذر التواصل الشخصي… وبديهي أن من يعيش معزولاً، محاصراً بخوفه، ولا يلتقي إلا من يناصره، لا يمكن أن يجسّد الوحدة الوطنية أو الأمل بتجديد الدولة ومن ثم الحياة السياسية.
ومع أن جميع القيادات الدينية والسياسية، إسلامية ومسيحية، قد تصرفت بمسؤولية وطنية ووعي بالمخاطر، إلا أنها كانت تؤكد من حيث لم تقصد الانشطار، بسبب من غياب الدولة بقيادتها المسؤولة: رئيساً ومجلس وزراء بصلاحيات كاملة، يعززه مجلس نيابي مؤهل بحس الوطنية فيه على دفع الحكومة إلى الأمام.
* * *
يعرف المسلمون في لبنان أن لا حياة لهم في وطن مستقل في غياب المسيحيين أو من دونهم.
ويعرف المسيحيون في لبنان أن لا أمل لهم بوطن مستقل في غياب المسلمين أو من دونهم.
إن كلاً من الطرفين شرط حياة للآخر، ووجودهما معاً شرط حياة لبلادهم ومن ثم لدولتهم.
ويعرف المسلمون والمسيحيون أن الطائفية مقتل للوطن، لكنهم أعجز ضمن ظروفهم الحالية عن تجاوزها… وبالتالي فهم مضطرون إلى التسليم بها كحالة مرضية مؤقتة…
لكن هذه الحالة المؤقتة تصبح دائمة، مع استمرار غياب الدولة الموحدة.
وللدولة الموحدة شروط يتعذر استيفاؤها مع أحوال القلق والاضطراب والخوف من الاغتيال والخلل الفاضح في العلاقة مع سوريا، الذي يزيد الشرخ سياسياً بين اللبنانيين.
ولا سبيل إلى معالجة ذلك كله إلا بحكم سوي، قوي بتمثيله الشعب، قوي بوحدته، قوي بقدرته على اتخاذ القرارات الصعبة.
من هنا يتحول أي خلاف سياسي، ولو حول دور المقاومة الباسلة التي حرّرت المحتل من الوطن بدماء مجاهديها، إلى خلاف طائفي مذهبي مشترك.
ومن هنا يصبح الاختلاف حول رئيس الجمهورية الممدّد له إلى سبب لاستمراره في سدة الرئاسة، يصعد إليه رئيس الحكومة ووزراء الأغلبية النيابية كارهين، وبين الذرائع الحرص على كرامة طائفته وجدارتها بالموقع السامي…
لا بد من دولة. لا بد من حكم مركزي قوي، يمثل اللبنانيين جميعاً، بمختلف ألوان الطيف السياسي، وإلا انفضحت حكومة تضم من يُتهمون بأنهم انتخبوا للنيابة بأصوات طوائف غير طائفتهم، في حين يتهم آخرون بأنهم لا يمثلون إلا طائفتهم!
لا بد من أن يحضر »القادة« و»الزعماء«: أن يخرجوا من قوقعة الخوف لكي يطمئنوا »رعاياهم« إلى أن حالة الطوارئ قد رُفعت…
لا بد من عمل سياسي على قاعدة برامج تلحظ مطالب الناس حتى لو لم تنجح في تلبيتها جميعاً، لكي تحل السياسة وصراعات البرامج محل الطوائف وصراعات الغرائز اللاغية للعقل… والوطن… إذا غابت السياسة حضرت الطائفية، وإذا حضرت الطائفية شحبت الدولة بمؤسساتها الجامعة كلها، وتحولت الحكومة إلى مغانم لزعماء الطوائف أكثر منها مجمعاً لمن يشتركون في توصيفهم للأزمة وللمخرج منها، ولمن هم مستعدون على تحمل مسؤولية التغيير من أجل بناء الدولة.
لقد أثبت اللبنانيون، أمس، وبغض النظر عن بعض التعبيرات النافرة أو المستفزة نتيجة الغضب أو الشعور بالاستفزاز، أنهم على درجة ممتازة من الوعي بمخاطر التصادم تحت رايات الطوائف وأغراض زعاماتها.
لكنهم بحاجة إلى دولة لتتأكد وحدتهم ورؤيتهم لغدهم الأفضل.
الدولة وحدها هي الحل، وإلا عشنا في خوف مقيم يثيره أي حادث مفتعل أو مقصود، ولو تمثل في تصادم بين سيارتين يقود كل منهما سائق ينتمي إلى طائفة غير طائفة الآخر!