تكاملت ملامح الصورة الأولية للتغيير كما يريده أو يراه العهد الجديد في حكومة »إعلان النوايا« التي تمّ تظهيرها مع انتهاء الاستشارات النيابية، وهي لم تؤثر إلا جزئياً على »التشكيلة« التي كان يتمّ تجهيزها منذ انتخاب إميل لحود رئيساً للجمهورية.
وإذا كان سليم الحص قد أعطى للعهد وجها رصينا فإن حكومته المختزَلة إلى النصف تقريباً عما ألفه اللبنانيون خلال السنوات الأخيرة، تدل على وجهة العهد، وتعطي للتوجهات طابعا تنفيذيا وأسماء تعرف بها.
ثمة »قيادة« و»حكومة« و»علماء« و»خبراء« وقلة من السياسيين… وبين هذه القلة قلة من »الثوابت« القدماء.
ولعل بين أبرز مزايا هذه الحكومة تخفّفها من العدد الأكبر من »الثوابت« الذين أثقلوا ظهر الرئيس رفيق الحريري، ولعلهم كانوا بين أسباب انسحابه من الحلبة حتى لا يُحاسب على »إنجازاتهم« في حين أنه لم يقدر يوما لا على استبعادهم ولا على منعهم من الإيغال في »الإنجاز«.
لقد سمح تبدّل الظروف السياسية، وهبوب رياح التغيير، للرئيس سليم الحص بما لم يكن مسموحا به إلى ما قبل انتخاب لحود.
وهكذا استطاع سليم الحص في أواخر العام 1998، وبعد اثنتين وعشرين سنة من تجربته السياسية الأولى، بأن يختار »بعض« حكومته الثالثة وهو ما لم يتمكن من تحقيقه في حكومتيه السابقتين، اما لنقص في الخبرة بدنيا السياسة والسياسيين (كما في أواخر العام 1976)، واما لتعذر الاختيار كما في نهاية العام 1989.
وهذا أمر لم يتمكن من ممارسته رفيق الحريري في حكوماته الثلاث، وقد كانت تفرضها غالبا الضرورات التي تجيز المحظورات.
إذن، ومن حيث المبدأ، فإن مناخ التغيير قد حقق قدرا عاليا من الانسجام والتناغم إلى حد التماهي على قمة السلطة التنفيذية.
ولن يفاجأ الناس إذا ما عرفوا ان أسماء بعض الوزراء كانت في ذهن كل من رئيس الجمهورية ورئيس حكومته، ولعل واحدهما قد سابق فسبق الآخر إلى تسمية منسيين أو منفيين أو مُبعَدين عن نادي الحكم والسياسة من أمثال جورج قرم، وناصر السعيدي، وجوزف شاوول، وحسن شلق، وسليمان طرابلسي وعصام نعمان الخ..
هي الصدمة الثالثة، إذن: رئيس جديد تماما، مختلف عمن سبقه، ورئيس جديد للحكومة، لا يشبه في شيء سلفه رفيق الحريري، وحكومة تكاد تكون جديدة، وهي مختلفة في الشكل والعدد ومضمون الوعد الذي توحي به عن حكومات العهد الماضي.
هي حكومة العلاج للأزمة الاقتصادية، بمفاعيلها الاجتماعية، كما يدل »مركز الثقل« في هذه الحكومة التي يتلاقى فيها بضعة من الأساتذة والمفكرين الاقتصاديين، أبرزهم الثلاثي: الحص، قرم والسعيدي، ولكل منهم خبرته العملية إضافة الى دراسته الأكاديمية.
وهي تقدم نفسها على أنها حكومة الإصلاح الإداري حيث يتلاقى »النظري« مع »العملي«، ضمنها، مع افتراض وجود ملامح خطة للغد وكشف حساب بأخطاء الأمس.
وقد لا تكون حكومة الانتقام من الماضي، ولكنها بالتأكيد ستسعى إلى القطع معه، حتى لو كان في صفوفها بعض »الرموز« القادرة على تجديد ذاتها والتحول من عنوان للماضي إلى عنوان للمستقبل.
في أي حال فإن هذه الحكومة المنتدِبة نفسها، أو »المتطوعة« لأخطر المهمات، في أحرج الظروف، لن تكون مطالَبة باليومي من الأمور، بل تفرض عليها اللحظة أن تنجز خطة طويلة الأمد، وعلمية وعملية، لمهمتين جليلتين هما: معالجة الدين العام وعجز الموازنة، وفي خط موازٍ: الإصلاح الإداري.
إن العودة إلى العدد »الطبيعي« من الحقائب والوزراء، تؤكد إعلان النوايا، بأننا ازاء عودة أوسع إلى ما هو طبيعي.
لقد انتهى الاستثناء مع رفيق الحريري، الذي كان استثنائيا بالايجاب كما بالسلب، والذي كان له تعامل مختلف مع الأرقام: فالمهم عنده هو الإنجاز لا الحساب، وقد تعوّد أن ينفق أكثر لينجز أسرع، ولعل حالة الدمار شبه الشامل التي كانت تظلل العاصمة والعديد من أنحاء لبنان، قد برّرت سياسته تلك… وهو ما يدور اللغط حول محاسبته عليه الآن، في ظل وضع من طبيعة استثنائية مختلفة، بل هي عكسية!
ولا شك أن هذه الحكومة ستعيش لفترة وهي محكومة بهاجس رفيق الحريري، تتجنب أن تتماثل معه، في أي نقطة، وتحاول أن تثبت خطأ حساباته في كل موقع، وتحتسب نجاحها بمدى افتراقها عنه.
سيكون امتحان المقارنة يوميا ومفتوحا،
ويفترض الناس أن نجاحها سيتأكد بإنجازها حيث قصّر الحريري، وليس بمجرد إظهار العيب فيه.
إن التحدي الفعلي هو أن تنجح أكثر، وليس في أن تظهر كم فشل من قبلها.
إن الأرقام صمّاء ومحايدة ولا تعرف المكايدة، إلا إذا وظّفها الغرض السياسي… ولا نظن أن العهد الجديد سيبرر نفسه بمجرد إظهار عيوب السابقين، بل بتأكيد جدارته بتحقيق ما وعد اللبنانيين به، وهو كثير وخطير وجليل.
تبقى ملاحظة أخيرة: لقد ولدت الحكومة الجديدة بمنأى عن المزايدات أو المناقصات الطائفية والمذهبية.
ولسوف يجد من يبحث عن المطاعن ما يأخذه عليها لجهة التمثيل الطائفي والمذهبي، وكذلك لجهة غياب التمثيل الحزبي، ولكنه كلما أكد »النقص« فيها كان كمن يزكّيها.
إنها »حكومة العهد الأولى«، ومن حقها أن تُعطى »فترة سماح«،
لكنها مضطرة لأن تباشر امتحانات النجاح وأولها مشروع الموازنة، ثم بعد ذلك تأتي القضايا السياسية والإدارية الثقيلة.
وفي انتظار البيان الوزاري، يمكن القول ان المحاسبة ستبدأ بعد »المئة يوم الأولى«،
خصوصاً وان التشكيل بذاته يمكن اعتباره »دفعة على الحساب«، في سياق المحاسبة العتيدة!
ثم انها حكومة تولد مع معارضتها في اليوم ذاته، بل المعارضة قد سبقتها إلى الولادة بأسبوع كامل!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان