نلتقي في الشتاء أحيانا ولكنها في الصيف لا تفارقني. أتحدث اليوم عن أغنية الجاز الشهيرة “Summertime”، بصوت كل من إيلا فيتزجيرالد ولويس أرمسترونج. أسمعها فتسحبني برقة كلماتها وعذوبة لحنها لنعيش معا ذكريات أيام وأمسيات كانت قاسية في حرارتها شديدة في رطوبتها ممتعة في خلاصاتها وفيما أضافته إلى سجلات عواطفي وتجاربي. بعض أيامي وأمسياتي مرت ولم تكن الأغنية صيغت ولا لحنت ولا وصلت إلى آذان زبائن محال وغرف الجاز المغلقة والمعتمة. سمعت الأغنية في سنوات لاحقة، كنت أنا الذي سمحت لذكرياتي عن أيام الصيف وأمسياته بأن تندمج، وإن أمكن تنصهر، في أجواء هذه الأغنية. أو حدث العكس منذ هيمن اللحن واحتل موقعا عندي لم يغادره لسنوات عديدة، فما أن تمس مسامعي نغمة من نغمات الأغنية إلا وتتدفق سيول ذكريات يوم في الهند وليلة في لاس فيجاس وأمسية في جزيرة كابري وساعة أو لحظة بعينها في شرفة شقة تطل على المحيط الهادي في فالبراييزو كان يسكنها بابلو نيرودا.
- • •
لم تكن الأغنية كتبت عندما كنا “نذاكر” لامتحان الثقافة العام وبعده امتحان التوجيهية. في الموعدين كان الصيف على أشده. أذكر أننا كنا عند الفجر نرسل الرسائل لبعضنا البعض نتنبأ بيوم قائظ. ففي الفجر تهب علينا في شرفات منازلنا ريح من جهة حي المدابغ تحمل رائحة كنا نكرهها، نتوقع القيظ لأن نسمات الفجر تأتي من الجنوب محملة برائحة الدباغة في اتجاه مناطق وسط القاهرة حيث كنا نسكن. كانت ريح الجنوب مؤشرا له اعتباره على يوم شديد الحرارة. عشت بعدها لا تترامي إلى حاسة الشم عندي هذه الرائحة وأينما كنت أو حللت إلا وتذكرت مذاكرة الثانوية وشقاوة المراهقين والمراهقات من الجيران عند الفجر. مرت السنوات وأستمعت إلى أرمسترونج فحلت أغنيته والحمد لله محل رائحة المدابغ كمنشط لذاكرتي عن الصيف وقيظ نهاره وعن لياليه وأمسياته وليس عن الفجر وحده.
- • •
كنت أسمعها، أقصد الأغنية، فتراني أستسلم لقيادها في رحلة نتنقل فيها معا بين ذكرياتنا مع رطوبة قصوى في العاصمة الأرجنتينية ورطوبة أقل في ميناء مار ديل بلاتا وطقس معتدل في منتجع بونتا ديل إيستي بالأوروجواي المجاورة. نتنقل هربا من قسوة مناخية في بيونس آيرس إلى غابة من تصرفات وسلوكيات أكبر طبقة وسطي في أمريكا الجنوبية في موسمها المفضل. قضيت أسبوعا في قرية مجاورة في ضيافة عائلة زوجتي الأرجنتينية، أقصد الجانب الأرجنتيني من عائلة زوجتي الممتدة في كافة الأرجاء. من هناك أنتقل بذكرياتي عن الصيف في أمريكا اللاتينية إلى منتجع بونتا ديل إيستي، الموقع المثالي الذي خططته ونفذته في أقصى شرق الأوروجواي طبقة أغنى الأغنياء في القارة من فنزويلا وكولومبيا شمالا إلى الأرجنتين وشيلي جنوبا ليصبح المنتجع الأمثل لتقضي فيه شهور صيفها.
كان الصيف في بكين أقل ضراوة من صيف دلهي وسهول شمال الهند عموما. كان محتملا. أقول محتملا لأننا، وأقصد سكان بكين، المدينة التي يسكنها موظفو الوزارات والمصالح المركزية وكبار المسئولين في الحزب والدبلوماسيون وأنا منهم، عرفنا مسبقا وقبل أن نأتي بإرادتنا أو مجبرين أو منفذين لعقوبة أو أخرى أن العاصمة الصينية نموذج لا مثيل له في تطرف الموسمين، موسم الشتاء وموسم الصيف. لم أسمع طيلة إقامتي في بكين إجابة شافية لسؤال عن سر اختيار الأباطرة لها عاصمة. أفهم أن أباطرة وسلاطين المغول ومن بعدهم المستعمرون الإنجليز اختاروا دلهي عاصمة حكمهم لأنهم خططوا ليقضوا أشهر الصيف على سفوح جبال الهمالايا في منتجعات مثل مسوري وسيملا المطلة على سهول الهند الشمالية. أظن أن الأمن والعيش المستمر في ظل احتمالات غزو من قبائل وسط وشمال آسيا حبذ اختيار بكين، المركز التجاري والإداري والثقافي والأقرب لدفاعات الأباطرة عبر القرون ومنها أسوار الصين العظمى.
- • •
أستيقظت صباح اليوم على لحن الصيف. لا أعرف إن صدر من بيت جارتي المحبة لأغاني وموسيقى مرحلة بعينها من القرن العشرين أم كرسالة من جار أبعد قليلا ينبهني إلى أن درجة الحرارة المتوقعة قد تتجاوز كل الاحتمالات وربما أيضا قدراتنا على تحملها. كان اللحن كافيا ليذكرني بإيطاليا وهي تقترب من شهر أغسطس أشد شهور السنة قيظا ورطوبة. كان فعلا خلال سنوات إقامتي في روما الشهر الذي لا يطاق، ومع ذلك اكتشفت فيه حسنة أو أكثر. روما المدينة المكتظة بالسيارات رغم صغرها تقضي أيام منتصف الشهر تكاد تخلو من السيارات فتصبح أكثر بهاء وجمالا، وهي بالتأكيد إحدى المدن الأجمل في العالم، على الأقل حتى غادرتها. أهلها يهربون منها في أيامها الصعبة بينما المدينة الصبورة الرائعة تتحمل تجاوزاتهم معظم أيام السنة.
- • •
من الذكريات المصاحبة للحن الصيف تفاصيل ساعات وأيام قضيتها على فترات في بيروت. بيروت في الصيف، لمن لا يعرف، مدينة لزجة إن صح الوصف ولو متجاوزا. فالرطوبة في مثل هذا الشهر صعب أن يتحملها حتى زوارها من المصريين. لكن بيروت المدينة الواقعة على شاطئ البحر لا يفصلها عن قمم جبال قريبة أكثر من ساعة بالسيارة. يغادرها الغاضب والمتلهف على الهرب من الحر والرطوبة، يغادرها متوترا وبعد ساعة أو أقل يتمدد سعيدا متفائلا على حس نسائم باردة على أريكة يشاهد منها شواطئ بيروت الملتهبة تحت شمس لا ترحم ولزوجة تخنق.
- • •
أمامي في هذه اللحظة الشاشة تنقل لنا مشاهد من الخرطوم عاصمة السودان. المشاهد لا تصف سخونة الجو وليست في حاجة لذلك. الأسفلت الساخن بفعل الصيف ينفث دخانا والقنابل الساقطة من مدافع وطائرات وصواريخ تخرب طرقا وتدمر مساكن ومدارس ومشافي، كلها وغيرها من خطايا العنف اختلطت في ثورة غضب. ثورة تشعلها عواصف الغضب المنبعثة من كل فم وصرخات نساء تعبر عن مأساة أمة. فجأة أسمع لحن الصيف فتغمض العينان ويغيب صوت الأزيز والمفرقعات وتعود إلى الوجوه السمراء على الشاشة ابتسامات كانت دائما الأحلى. إنه ولا شك مفعول لحن سحرني ذات يوم قبل نصف قرن وما يزال سحره فاعل ومنتصرا على تجاوزات صيف مريع وأعمال صناع فساد وجوع وحرب.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق