عادت أبواق التحريض على الفتنة إلى العمل، من ضمن خطة منسقة، متخذة من موضوع التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، قبل اكتماله وعشية إعلان نتائجه، المنطلق »وعدة الشغل« المحققة لأغراضها…
ليس أسهل، الآن، من ادعاء امتلاك السر حول مَن خطط ومَن حرّض ومَن نفذ ومَن ارتكب تلك الجريمة التي شكلت كارثة وطنية، ومأساة عربية، قبل أن نصل إلى توصيفها الدولي الذي وضعها بين جرائم العصر…
فالتحقيق سري، بالفعل، لم يتسرب من مجرياته إلا ما يتصل بمسرح الجريمة وكيفية تنفيذها، وغير ذلك من التفاصيل التي كانت معروفة من قبل أن يأتي الشرطي الإيرلندي فيتزجيرالد، ومن قبل أن يبدأ عمله الدؤوب والصامت المحقق الألماني ديتليف ميليس.
لكن الوقت يمر سريعاً، ولا بد من استثمار فترة الغموض التي تسبق إعلان التقرير الدولي حول الجريمة ومنفذيها، لتحقيق أغراض سياسية، قد تتجاوز النطاق المحلي، في لحظة مشحونة بالترقب والتلهف والقلق مما يغلّب العاطفة على العقل ويترك المجال فسيحاً أمام احتمال الضياع في عباب مشاعر الفقد والحسرة والإحساس بخسارة مَن لا يعوّض.
وهكذا تجددت المحاولات التي اندفع إليها »مستثمرو« الكارثة الوطنية مع وقوع جريمة الاغتيال، لتقسيم اللبنانيين على قاعدة طائفية أو مذهبية إلى صنفين: المطالبين بالثأر لدم الشهيد، والقتلة أو المتسترين على جريمة القتل والقتلة.
وكما أن التقسيميين هم الأعلى صوتاً والأعظم فصاحة في الدعوة إلى »الوحدة الوطنية«، خصوصاً أنها درّت عليهم مكاسب سياسية لم يكونوا ليحلموا بها في ظروف طبيعية، فإن مستثمري الغموض في مجريات التحقيق يحاولون استباق نتائجه لتثبيت كونفدرالية الطوائف بدم أحد أخطر من سعى لمنع المشاريع التقسيمية: رفيق الحريري.
وهكذا »اكتشف« هؤلاء التقسيميون فجأة، وبغير سابق إنذار، وبعد خمسة شهور على الاغتيال، قرائن تشير إلى »تورط« بعض الأطراف في لبنان في تسهيل تنفيذ الجريمة، حتى لو لم يكونوا شركاء في التخطيط أو في الإفادة من الدم المراق.
ناب هؤلاء التقسيميون عن ميليس وتحقيقه الدولي في إصدار القرار الظني، بأمل أن ينجحوا هذه المرة في إحداث شقاق لم ينفعوا سابقاً في إحداثه، لأن أسرة الرئيس الشهيد ظلت برغم أحزانها اليعقوبية مالكة العقل والقدرة على التمييز ووعي حقيقة المحرّضين على الفتنة…
ومما أعان الأسرة الثكلى على فرز الحقائق عن الادعاءات، والتمييز بين الوقائع الثابتة والألغام المزروعة في الطريق بقصد الفتنة، أنها كانت تعرف أكثر مما قدّر المزوّرون عن علاقات الشهيد الكبير ولقاءاته السرية بقيادة »حزب الله«، وهي قيادة لا تحب الضوء، ولم تكن ترغب في التشويش على جهود رفيق الحريري الدولية لتجاوز عنق الزجاجة والخروج من الأزمة بأقل الأضرار الممكنة.
من هنا فإن الإشارات المتكررة إلى »الضاحية« أو »المربعات الأمنية« وإلى إفادة القتلة من خبرات لا يملكونها باللجوء إلى »خبراء« تفجير في داخل »المخيمات« أو من حولها، ليست مجرد استباق للتحقيق، وليست بطبيعة الحال مجرد اجتهادات وتقديرات، وإنما هي أجزاء من خطة تهدف إلى حرف الاهتمام عن الموضوع واستعجال الفتنة بمسلسل من الشائعات المغرضة والأخبار التي يصعب نفيها أو تأكيدها ولكنها تنفع في خلق مناخ مسموم يفرز مواقف اللبنانيين من الجريمة حسب انتماءاتهم الطائفية، مفسحاً في المجال أمام التقسيميين وأصحاب مشاريع الأمن الذاتي وفدرالية الطوائف ليكونوا في موقع »المدعي العام«، بينما »الآخرون« في موقع المدان حتى تثبت براءته… وفي المهلة الفاصلة بين الإدانة المرتجلة بقصد مقصود، والتبرئة التي عليها أن تنتظر التقرير الدولي، يمكن استغلال المناخ المسموم لتحقيق أغراض الفتنة العتيدة، وإن كان أخطرها يكمن في المشاريع التقسيمية.
… خصوصاً أن الاتهام، بالتواطؤ أو أقله بالإهمال، يطاول رأس السلطة، والعديد من أجهزتها الأمنية، ويضعها كما هو واقع الحال في موقع ضعف تنعدم معه قدرتها على مقاومة المشاريع التقسيمية (وإن ظل بإمكانها أن تنال حصتها من التعيينات، لأن المحاصصة تؤكد التقسيم ولا تمنعه)…
* * *
هل من الضروري التذكير، مرة أخرى، ببعض البديهيات، ومنها:
أن رفيق الحريري هو شهيد الوطن، كل الوطن، وشهيد اللبنانيين، كل اللبنانيين على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم وتمايز مواقفهم السياسية…
فالشهادة أسقطت الخلافات ورفعت رفيق الحريري إلى مرتبة عليا لا يطالها نقد الحاكم أو رجل السياسة فيه (أيام حياته)…
أن اللبنانيين جميعاً، بيمينهم والوسط واليسار، بالمعتدلين و»المتطرفين«، وكذلك »بأصدقاء سوريا« وخصومها، يطلبون الحقيقة ويريدونها، ليس فقط حتى لا يذهب دم الشهيد هدراً، بل قبل ذلك وبعده حتى لا يصير دم الشهيد إذا ما تمّ تجهيل الفاعل عرضة للاستثمار والاستغلال أو سبباً للشقاق وصولاً إلى الفتنة والعياذ بالله.
لقد خسرنا في رفيق الحريري واحداً من أبرز رجالات هذا الوطن،
فلنحاول أن نحمي الوطن بدمه الطاهر، بدل أن نترك لأصحاب الأغراض التقسيمية والنوايا السوداء، والمتعجلين الانتقال إلى الوصاية الأميركية، أن يدمروا الوطن بذريعة الرغبة في الانتقام لرجله الكبير، وأن يهدروا دماء اللبنانيين في فتنة عمياء بحجة الثأر لدمه المُراق غيلة وظلماً.
* * *
من الممكن، اليوم، أن ينسب كل صاحب غرض إلى تقرير ميليس، الذي لم يكتب نصه النهائي بعد، أو إلى »أجواء التحقيق«، ما شاء من افتراضاته أو تقديراته (هذا إذا ما حسنت النوايا)، وما شاء من أغراضه واستهدافاته تحت ستار من العاطفة المشبوبة.
ولكن الواقع أن لكل طرف »ميليسه«، يقوِّله ما شاء، ثم يستنتج من هذه التقوّلات ما يلائم أغراضه السياسية… خصوصاً أن السلطة متصدعة ويمكن القفز إلى مركبتها بأي شعار طائفي، مهما كان استفزازياً.
ومن واجب اللبنانيين أن يمنعوا استثمار شهادة رفيق الحريري لأغراض خاصة، فكيف إذا دخل على الخط من يريد استخدامها كمنطة إلى مشروعه التقسيمي؟
لقد وقف أمام الضريح أنواع البشر جميعاً: الحزانى حتى العظم وقناصو الفرص، الأطهار والأخيار والشريرون، الأبرياء والمثقلون بسجلات ارتكاباتهم المشهودة، الخطاة والقديسون، الوحدويون والتقسيميون الذين عرفهم الجميع في المدينة المشطرة بالحرب والساحل والجبل وشرقي صيدا ارتقاء إلى جزين وانتهاءً بالشريط المحتل وما حفلت به أرضه من وقائع ما تزال آثارها واضحة…
وإذا كان اللبنانيون قد طووا تلك الصفحات السوداء من تاريخهم وحاولوا تجاوزها، فإن ذلك لا يبرر للتقسيميين أن يتحولوا إلى »قضاة« و»ديانين« مستغلين دماء شهيد وحدة لبنان وعروبته.
لقد صبر اللبنانيون خمسة أشهر في انتظار معرفة الحقيقة، ويمكنهم بعد أن يصبروا شهرين، لكي يحل اليقين محل الشك، ولا يغطي الغرض السياسي عيونهم فيأخذهم إلى حيث يريد أن يقودهم دعاة الفتنة باسم الثأر للشهيد.
ولن يقبل اللبنانيون الذين توحدوا ضد قتلة رفيق الحريري أن يأخذهم التقسيميون إلى الفتنة فيقتلوا بذلك رفيق الحريري مرة ثانية، ويقتلوا معه الوطن الذي تترنح دولته وتكاد تتهاوى تحت وطأة »المناضلين« من أجل فدرالية الطوائف.