… وعند باب القدس أيضاً، ومن أجلها، بتراثها الإلهي المفرد، وبعروبتها التي توهجت دائما بدمها وما تزال، سقط ابن الشهيد وحفيد الشهيد شهيداً، والتحق فيصل الحسيني بوالده الذي لم يعرفه إلا قائدا، في القدس، ومن أجل القدس، وعلى الطريق إلى القدس، باعتبارها اسم الولادة لفلسطين، بل للعروبة جميعا: عبد القادر الحسيني، وكذلك بجده رائد الجهاد والشهادة موسى الكاظم الحسيني.
انطوى حارس الأنبياء على جراحه، هو الذي على درب الآلام نثر عمره، وعلى درب الآلام تلقى التنكر والازدراء والسهام والعصي والإهانات، وكان كلما سقط نهض، برغم جراحه وأوجاعه، ليكمل المسيرة التي أولها شهادة وآخرها استشهاد.
وأكيد أن ملاك الموت لم يفاجئه حين جاءه وهو في خضم النقاش العاصف مع بعض قتلة الأنبياء، ممن أعماهم الحقد ففقدوا القدرة على التمييز بين الشقيق والعدو، لقد كان يعرف أنه منذور للشهادة على مدار الساعة. ولعل ما آلمه قليلاً أن يسقط خارج القدس، مع وعيه الكامل بأن القدس غدت بمساحة الأمة، وأنها صارت بالانتفاضة المباركة التي منها انطلقت مرة أولى ومرة ثانية منارة للحق الإنساني التي تحاول القوة الإسرائيلية الهمجية أن تطفئها فيزداد إشعاعها نورا على نور.
وأكيد أن عميد النضال القومي في الكويت، الدكتور أحمد الخطيب، الذي حاول أن ينقذه من الأزمة القلبية فسبقته إليه المنية، قد طمأنه إلى حقيقة أن القدس ثابتة في وجدان الكويتيين، كما سائر العرب بمسلميهم والمسيحيين، لا يطالها قصور النظر عند بعض المناقصين باسم الكيانية أو المزايدين تحت راية التطرف باسم الإسلام إلى حد الخروج من الدين وعليه.
فالكويت هي الأرض الأولى لحركة »فتح«، وهي إحدى القواعد التأسيسية لإمكانات منظمة التحرير الوطني الفلسطيني…
إن فيصل الحسيني شهيد الغلط العربي، وهو غلط شامل لا تكاد تبرأ منه قيادة أو حاكمية، سواء في فلسطين أم في سائر أرجاء الوطن العربي.
ولقد يرتفع صوت بعض الكيانيين الفلسطينيين غداً ليقول: »إن العرب قد قتلوا فيصل الحسيني«… في محاولة لتعميق النعرة الانفصالية، ولتحريض العرب ضد بعضهم البعض، مما يشكل خدمة مجانية لا يهم أن تتم بالقصد أو بالعمى السياسي لإسرائيل واحتلالها ومشاريعها التوسعية وخطتها المعلنة للهيمنة على العرب كافة، لا فرق بين »القومي« منهم و»الكياني« و»الإسلامي« و»الأممي«.
فيصل الحسيني شهيد آخر للغلط العربي الذي بلغ إحدى ذراه المريعة في اجتياح صدام حسين الكويت، وهي الغزوة التي فتحت الباب لعاصفة الصحراء الأميركية التي دفعنا وسندفع ثمنها غاليا من أرضنا وإرادتنا وحقنا في غد أفضل، فضلاً عن دمائنا وأرزاقنا وعلاقاتنا الأخوية.
وها فيصل الحسيني، وكما كل العرب، يدفع الثمن مرتين.
* * *
التقينا، آخر مرة، خلال المؤتمر العام لاتحاد المحامين العرب في أواخر آذار الماضي، في بيروت: كان ينبض حماسة واستبشارا بالاحتمالات الطيبة التي فتحت أبوابها انتفاضة الأقصى.
كانت القدس قصيدته وقضيته، كانت مصدر إيمانه وعنوان اعتزازه، وكفى بالانتماء إليها مجدا..
وقدس فيصل الحسيني هي قدس الأنبياء وقدس البشر أيضاً. هي قدس الرسالات وقدس الناس الذين آمنوا بالرسالات وحملوها في صدورهم وعلى حد سيوفهم فحموا بها التاريخ وقيمته الإنسانية.
الشهيد ابن الشهيد، حفيد الشهيد: فيصل بن عبد القادر بن موسى الكاظم الحسيني، هذه الأسرة المباركة التي أضافت إلى العترة المشرفة المميزة بالشهادة ولم تتعيّش على ذكرها العطر، والتي لم تستخدم النسب طريقا إلى الحكم بل أضافت إليه مجد الشهادة من أجل القضية.
وفي بعض اللقاءات مع نخب لبنانية مثقفة، بعضها آت من رحلة عداء طويلة مع السلاح الفلسطيني، قرأت الإعجاب بفيصل الحسيني الذي ندر أن عرفنا مثله في تواضعه ودماثته وثقافته بقضيته، وفهمه العميق لمعنى القدس في الوجدان العربي، بل الإنساني، وأهمية أن يبقى أهلها فيها، مهما كلّفهم الصمود من عنت ومن اضطهاد ومن ضغوط لتهجيرهم قد تصل إلى مستوى القتل. إما الاعتقال الإداري أو السجن أو الإبعاد فقد جرّبها جميعا وما بدل تبديلا. أليس هو أحد الفرسان الذين عادوا إلى جنته، القدس، بعد احتلالها، والذي ناضل طويلاً وبكل أساليب المواجهة، من القانون إلى الشارع، حتى يبقى فيها.. وقد بقي.
لقد سقط حارس المدينة المقدسة في الميدان. ولقد كان مثاليا في خلقه، بزهده وترفعه، حتى لكأنه صورة لمدينته كما يتمثلها فكر المؤمن. بل لعله استبقى بعضا من السمعة الفلسطينية التي نهشها العديد من القيادات بمسلكهم ومباذلهم التي كادت تدمغ العمل الوطني الفلسطيني كله بتشوهات خطيرة.
سقط الرجل البريء إلى حد السذاجة، وريث العائلة الأعظم زعامة والأكثر شعبية في فلسطين، بعدما حفظ طهارة قضيته بمسلكه الذاتي حتى الدقيقة الأخيرة.
لكن القدس، مثل فلسطين، ولادة، وها الانتفاضة التي انطلقت منها وباسمها تكتب تاريخها الجديد بالدم القاني، وبما يليق بأرض الأنبياء.
الشهداء لا يموتون. إنهم ينغرسون في الأرض ليؤكدوا انتماءهم إليها وانتماءها إليهم.
وفيصل بن عبد القادر بن موسى الكاظم الحسيني إضافة جديدة إلى أسباب قداسة المدينة المقدسة، والتي تشكل عروبتها ضمانة وحماية لقداسة قضيتها: فلسطين. فحارس المدينة المقدسة هو الصورة الأكمل لفلسطين، الماضي والحاضر والمستقبل.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان