لم يشهد لبنان، الذي كان مضرب المثل بحيويته السياسية، فترة عمّت فيها البطالة السياسية الشاملة كالتي يشهدها الآن.
والأمر لا يعني »السياسيين« بل هو يعني الحياة العامة بمختلف جوانبها: من الحكم بمؤسساته المختلفة (والمختلف فيها وعليها) ومعارضاته المتهافتة (متطرفة ومعتدلة) إلى الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والتربوية كافة.
وحدها البطالة السياسية تفسر هذا الدوران في الحلقة المفرغة: ارتكابات تتكشف كل يوم فتذهب بكثير من المال، وبأكثر من سمعة البلاد ومؤسساتها (العامة والخاصة)، وجعجعة مدوية في الحديث عن المحاسبة سرعان ما تتلاشى بعد أن تستنفد حصانة المرجعية القضائية ودور مؤسسات الرقابة، ومن ضمنها الصحافة وسائر وسائل الإعلام التي يفترض فيها أن تستحضر الرأي العام، بالمعلومات والوقائع، ليكون المرجع الأخير… فلا هي تستطيع أن تمضي إلى النهاية، ولا الرأي العام يستطيع أن »يتوحّد« فيقرر ويحكم، ولو معنوياً، على أصل الفساد أو فروعه، وإن كان عليه دائماً أن يتجرع الخيبات ومراراتها الثقيلة، بعدما انعدمت ثقته في الجميع، وتاه عن الحقيقة أو مُوِّهت عليه فبات كل شيء ككل شيء..
وفي ماضي الأيام كان يحدث أن يضعف الحكم فتنشط المعارضة أحزاباً ونقابات ومنظمات وهيئات وشخصيات سياسية، فيعوّض »الشارع« بحيويته النقص، ويفرض تغييراً ما، ولو محدوداً، كأن تتبدل حكومة أو يتم تعديلها، لامتصاص النقمة، أو حرصاً على »الشكل الديموقراطي«!.
أما اليوم فليس أضعف من الحكم إلا معارضاته العديدة، وليس أضعف من مؤسسات الرقابة والمحاسبة وفي الطليعة منها المجلس النيابي إلا »الشارع« الذي يظل فارغاً حتى أو لا سيما حين تنزل إليه »الأحزاب« في مسرحية باتت ممجوجة: كأنما لكل حزب فرع »حاكم« وفرع »معارض«، واحد يجني مغانم السلطة والثاني يحاول الحفاظ على رصيده المعنوي بمخادعة الناس، أصحاب المطالب والهموم الثقيلة.
أما رأس العلّة فهو أنه قد تم تطييف كل المؤسسات وكل القرارات في لبنان بحيث انعدمت »السياسة« وبالتالي استحالت المحاسبة.
لقد تم تجميد أو تجليد مؤسسات الحكم في قوالب طائفية ذات حصانة لا يمكن خرقها حتى لا تكون فتنة!
صارت الرئاسات والوزارات والإدارات أنصبة للطوائف والمذاهب، كل وزارة لطائفة أو لمذهب يكاد يستحيل على أبناء الطوائف الأخرى دخولها أو العمل فيها.
من مخفر الدرك أو الشرطة إلى المحكمة ومن المخترة الى النيابة، ومن المباشر إلى رئيس الدائرة أو المصلحة إلى الوزير، معيار الاختيار طائفي أو مذهبي، فكل وزارة على دين وزيرها، وكل إدارة على مذهب وزيرها.
ولقد تمدد السرطان الطائفي من الإدارات إلى المؤسسات ذات الحصانة كالقضاء، فشهدنا اعتراضات على نقل قاض، وشهدنا تجميداً لتشكيلات بسبب ادعاء الخلل في التوازن بين طائفية الموظفين واللون الطائفي السائد في هذه المنطقة أو تلك.
أما »على الأرض« فإن الفرز الطائفي الذي تسببت فيه الحرب الأهلية، والذي استكمل في ظل »السلم الأهلي« قد ضرب التواصل بين اللبنانيين، وجعل »منطقياً« أن تطالب كل منطقة بأن يكون الدركي والضابط وموظف المساحة والقاضي من اللون الطافي السائد فيها حتى لا يقع خلل في التمثيل أو غمط من حقوق الطائفة، أو »استفزاز« لا مبرر له لمشاعرها و»حط« من كرامة موظفيها الذين هم أولى وأدرى بالتعامل مع أهلهم بلا عقد ولا حساسيات قد تتسبب في ما لا تحمد عقباه!
وأخطر ما تسبب فيه هذا الواقع، خلال الحرب الأهلية أساساً ثم عبر الصيغة التي ابتدعها اتفاق الطائف وتم تنفيذها بمن حضر، أن الأحزاب السياسية لا سيما ذات الشعار الوطني القومي التقدمي قد تهاوت فاحترقت في الأتون الطائفي للحرب، ومن كان تبقى له بعض المشروعية منها جيء به الى الحكم لتكتمل الصورة المزوّرة لحكومة الاتحاد الوطني، فاستمرأ الحكم وترك لخصومه شرف المعارضة، وإن كان استمر يتحدث من موقع الحكم بلسان معارض، فيلوم وينتقد ويطالب بمحاسبة المقصرين والمفسدين والمتهاونين في تطبيق القانون!
ولعل المأساة التي يعيشها الحزب الشيوعي، والتي تكشّفت بعض جوانبها للناس عبر مؤتمره الأخير، تلخص مأزق العمل الوطني في لبنان، بمعزل عن الأسباب الذاتية والمباشرة لأزمة هذا الحزب ذي التاريخ العريق، ومجمل الأحزاب
التقدمية في المنطقة العربية خصوصاً وفي العالم عموماً.
لقد تبدّى، بالملموس، وكأنه لم يعد للأحزاب غير الطائفية مكان في الحياة السياسية في لبنان: فهي ممنوعة من المشاركة في الحكم ببرامجها إلا بمقدار ما »تنتزع« تمثيلاً ما، ولو بالوكالة، لطائفة ما أو مذهب ما، فتبقى الشعارات خارج قاعات الحكم وإن ظلت التصريحات حريصة على استبقاء بعض خطاب الماضي، لتمويه »الانحراف« الفكري أو تبريره بأسباب مقتضيات عملية. أما من تمسك بشعاراته الاصلية فليس له مكان لا في نادي الحكم ولا في الشارع الذي لا يدخله إلا الطائفيون والمذهبيون الحريصون على الوحدة الوطنية!
وهكذا صارت لمواقع السلطة »حصانة« الطائفة التي ينتمي إليها كل من مراجعها المؤبدين، وأي انتقاد لهذا الرئيس أو ذاك، أو لهذا الوزير أو ذاك، أو حتى لهذا المدير أو ذاك، يصبح هجوماً على الطائفة يفتح الباب أمام الفتنة (التي تنام بنصف عين خلف الباب)…
ثم انه في ظل انتفاء القدرة على التغيير أو التعديل، بذريعة الحرص على الاستقرار، صار الرؤساء الوزراء النواب المديرون وصولاً إلى رؤساء الدوائر وكأنهم »دائمون« حتى لا نقول انهم باتوا »أبديين«.
وتأبيد المناصب يعني مزيداً من تكريس الطائفية أو المذهبية، ومن الطبيعي الا تجد الآن في مواقع السلطة الأساسية إلا قلة قليلة تنتمي لغير مذهب الرئيس الوزير المدير رئيس الدائرة الأبدي الأزلي السرمدي، فإن خرج أو أخرج بعاديات الزمان جاء إلى مكانه أخوه أو ابن عمه أو نسيبه وبالضرورة أحد أبناء الطائفة الميامين، حفظاً للتوازن الوطني المتين الأركان!
لقد صار لناهبي البنوك مذاهب وطوائف تحصنهم ضد المحاسبة.
وصار لطائرات الموت هوية طائفية أو مذهبية تعطل عمل التحقيق أو تحرفه منعاً للفتنة، أو سعياً إليها!
صار للجامعات هوية طائفية ومذهبية توفر لها فرصة الحصول على تراخيص، ولو خلافاً للقانون، أو تحميها ولو كانت مخالفة لكل القواعد الأكاديمية.
أما في الجامعة الوطنية فتم تثبيت المواقع بحيث صار أي مشروع لتبديلها نفخاً في نار الفتنة، ولتذهب الكفاءة إلى الجحيم… فمن يعلّم في فرع الفنار لا يجوز له ان يدرّس في بئر حسن الخ… والحديث في توحيد الجامعة، ولو في حفلات تخرج طلابها، يظل في خانة التمنيات، بل الأحلام!
* * *
من يحاسب من، وما هي معايير المحاسبة في ظل أوضاع كهذه؟!
وفي ظل بطالة سياسية مفروضة بقوة الأمر الواقع، تصبح المؤسسات الشرعية أو الشعبية للمحاسبة تكايا للعاطلين عن العمل ومنتديات للتذمر والتأفف بغير أي قدرة على الفعل.
.. ويتواصل الانهيار الاقتصادي، وتتفاقم الأزمة الاجتماعية في قلب الفراغ السياسي، الذي تضفى عليه للتمويه ألقاب مفخمة كمثل »الهدنة« أو »التوافق« أو »منع الانفجار« حرصاً على الاستقرار السياسي والوحدة الوطنية.
انه استقرار يشابه الغيبوبة.
انه جمود هو أقرب إلى الشلل… أي المرض العضال الذي يصعب علاجه.
… وبعد هذا تريدون اجراء انتخابات بلدية؟!
لماذا هذا التحرش بوكر الدبابير. لماذا إقلاق راحة الناس ودفعهم إلى حومة المنافسة والصراع والتحدي؟!
ان الوحدة الوطنية نائمة… دعوها هانئة في نومها، ألا ترون ما جرى ويجري للعراق وفيه؟!