يستحق سعد الحريري، في هذه اللحظة بالذات، تحية تقدير لتقديمه الشأن الوطني على حزنه الشخصي وإحساسه الثقيل بفجيعة اغتيال والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
فمع صدور التقرير الرابع للجنة التحقيق الدولية المستقلة، والثاني لمفوضها القاضي سيرج برامرتز، يتبدى كم كان صحيحاً سياسياً برغم صعوبته نفسياً، ذلك الموقف الذي اتخذه سعد الحريري عندما باشرت هيئة الحوار الوطني أعمالها، قبل ثلاثة شهور، والقائل بالفصل بين التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد وبين سائر الموضوعات المطروحة على الطاولة وأخطرها مستقبل العلاقات المميزة بين لبنان وسوريا، بعد التوتر الشديد الذي أصابها وأخذها في اتجاه القطيعة وكاد يحوّلها إلى حرب على الحدود والسفارات.. وصولاً إلى الاقتصاد والكهرباء وصلات النسب والمصاهرة.
لقد تصرف، وهو صاحب الدم بمسؤولية وطنية، تاركاً للمزايدين أن يندفعوا إلى البعيد البعيد في محاولة استغلال تلك الجريمة الشنيعة لأغراض سياسية ولكيديات انتقامية ولفض تحالفات محلية والشروع في بناء علاقات دولية تفيد في تحقيق طموحات أشخاصهم، بمعزل عن الحقيقة التي كانت وما تزال معلقة على جهد لجنة التحقيق الدولية..
وربما ساعد التقريران اللذان قدمهما المفوض السابق لهذه اللجنة، بالاستنتاجات المتسرعة، انطلاقاً من تقديرات سياسية، أو من شهادات لم تصمد طويلاً للمواجهات، وثبت أنها لم تكن دائماً عفوية أو بريئة وبقصد خدمة الحقيقة وكشف الجناة الفعليين.
أهم ما في التقرير الجديد أنه رصين اللغة، دقيق في تعابيره، تكاد السياسة بمعناها اليومي المبتذل، أقله لبنانياً تغيب عنه كلياً ليسود المنطق القانوني المتحفظ الذي يبتعد عن الاستنتاجات المتسرعة، وبشكل خاص عن توجيه الاتهامات من قبل أن يستوفي التحقيق إجراءاته وكشوفه الميدانية وتحليل المعلومات المتوافرة والتدقيق في إفادات الشهود وأصحاب العلاقة ممن يعرفون فعلاً أو يفيدون في إعادة تجميع القرائن والأدلة لبناء الحدث بمقدماته وخلفياته جميعاً.
إنه تقرير يتسم بالجدية ويتعامل مع الحدث الجلل، اغتيال شخصية استثنائية بوزن الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بما يستحق من الرصانة، فلا تسرّع في إطلاق الاتهامات، ولا ارتجال في الاستنتاج.
ولعل بين مميزات هذا التقرير خلوه من الأسماء، والتعابير الدقيقة والتي لا تحتمل التأويل في توصيف لقاءاته استكمالاً لتحقيقه، سواء في لبنان أو في سوريا التي قابل رئيس الجمهورية فيها ونائبه، فضلاً عن أن معاونيه زاروا دمشق مرات واستجوبوا بضعة من الشهود الذين حجب التقرير أسماءهم بقصد.
ثم إن التقرير قد أسقط أسماء الضباط اللبنانيين الأربعة الموقوفين منذ تسعة شهور وأكثر على ذمة التحقيق، في حين أن المحقق ميليس قد أضفى مناخاً سياسياً على توقيفهم فاعتبره ضربة معنوية مؤثرة على النظام السياسي الذي كان قائماً ليذهب بهيبته لعل ذلك يساعد في انهيار المعنيين بالاتهام.
كذلك فقد أسقط التقرير أي ذكر للشاهدين السوريين اللذين أثارا الكثير من اللغط (محمد زهير الصديق وهسام هسام)، بدءاً من طبيعة الدور الذي لعبه كل منهما، وهل كان أحدهما أو كلاهما مدسوسين على التحقيق بقصد التأثير عليه، أم لا، وانتهاءً بمصيرهما ومصير شهادتيهما.
الأهم أن القاضي سيرج برامرتز قد أبلغنا مجدداً أن مثل هذا التحقيق الخطير، بالاحتمالات العديدة التي تثيرها جريمة الاغتيال التي استهدفت رجل العرب الدولي ، يحتاج إلى مزيد من الوقت، من هنا طلبه التمديد لمهمة اللجنة لمدة سنة، حتى تستطيع إنجاز عملها الدقيق وتجهز كل ما سوف تطلبه المحاكمة الدولية من مستندات ومن شهادات ومن وثائق قاطعة بمسؤولية الجناة وأغراضهم، التي لا بد أنها تتجاوز حدود لبنان، نظراً لخطورة الشخصية الاستثنائية التي استهدفتها الجريمة السياسية.
مرة أخرى لا بد من التنويه بسعد الحريري الذي قدم مصلحة بلاده على حزنه الشخصي الذي يبقى اللبنانيون جميعاً شركاء فيه لأن الجريمة استهدفتهم جميعاً في وطنهم الصغير، بهويته وتاريخه وجغرافيته ومصالحه العليا.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان