جميلة هذه التظاهرة الاعلامية التي يتلاقى فيها لبنان كله تحت راية التضامن مع الجنوب، ولو غدت مجرّد شارة حداد صفراء على صدور »الإخوة المختلفين«..
فمن زمان لم يتضامن لبنان مع نفسه، لا على مستوى القيادات ولا على مستوى »القاعدة« الغارقة في همومها العديدة وأخطرها التباعد والخوف المتبادل.
من زمان لم يعرف اللبنانيون بلدهم كوحدة، ولا هم اعترفوا ببعضهم البعض كشركاء في الحياة: ماضيù وحاضرù ومستقبلاً على وجه الخصوص.
وهي فرصة تاريخية أن يتوحدوا أخيرا على قاعدة مواجهة إسرائيل، كاحتلال أجنبي، إن لم يكن كعدو قومي وحضاري وإنساني بالمطلق، بعدما أوصلهم الاختلاف من حولها (في جملة مشكلاتهم الذاتية مع نظامهم والسلطة فيه) إلى حد الاقتتال الأهلي وتدمير الدولة والتمكين للاحتلال الذي وجد وما زال يجد مَن يتعاون معه »بالقطعة« إن لم يكن »بدوام كامل« كأنطوان لحد ومَن معه.
على أن الترحيب بالتظاهرة لا بدَّ أن يتعزّز ببعض التحفظات والملاحظات خوفù من أن تنتهي ككل تظاهرة بإحساس غامر بالرضا عن النفس: »أديت قسطك للعلى فنم…«،
فليس »يوم الجنوب« مجرّد درس في الجغرافيا، يساهم في محو أمِّية اللبنانيين وجهلهم ببلادهم الصغيرة، خصوصù وقد دوَّت فضائح التباعد والاغتراب عن الذات، في وسائل الاعلام المرئي، كاشفة عن عمق المأساة الوطنية التي يعيشها الناس متجاورين في الزمان على تجاف مع الزمان، متلاصقين في المكان على عداء للمكان الذي يحتفظون به للشعر ولا يفعلون ما يتوجب فعله للاحتفاظ به أرضù لها قداسة الكتب السماوية وملامح الأنبياء.
كذلك ليس »يوم الجنوب« مجرّد »مناسبة«، يستدرك فيها المقصِّر تقصيره بخطاب أو لافتة، أو يحاول الهارب من واجبه التكفير عن هربه من المواجهة يوم فرضها العدو بالحضور النافر الآن طلبù لوجاهة لا تكلفه غير سرعة الحركة في الانتقال بين الفقرات الاحتفالية المتعددة والمتناثرة على مساحة جغرافية واسعة نسبيù.
وأخطر ما في الأمر أن يتحوّل »يوم الجنوب« إلى فولكلور، فيه الكثير من الزجل والتبولة والكبة النية و»الدبكة الخيامية« والأناشيد الكشفية وصور العناق والتكاذب »التعايشية«، كتلك التي بين »شيخ« و»كاهن«، أو بين »زعيم« من هذا المذهب و»متزعم« من ذاك المذهب، مع »فواصل« تقدمها الطوائف الصغرى تدعيمù للوحدة الوطنية وتوكيدù لمقولة »بحبك يا لبنان« الخالدة.
مصدر الخطورة أن تدخل الدولة، بمؤسساتها ورجالاتها، هذا »البازار« المفتوح بعروضه المتواصلة، فيتضخم »الشكل« وتتورّم »المظاهر« وكلها مكلف على حساب المضمون، أي على حساب التحرير كقضية وطنية، وعلى حساب المقاومة كحركة وكفعل صمود مطهر بالدم.
كل لبناني مقاوم،
هذا ما يجب أن يكون.
ولكن، وفي انتظار أن ننجح في صهر اللبنانيين جميعù في بوتقة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، فعلينا أن »نتواضع« فتكون »المقاومة لنا كلنا«، حتى لا نقول »كلنا للمقاومة«، جاعلين بين أهدافنا الفورية حماية المقاومة، روحù ورجالاً،
للدولة دورها الذي لا بديل منه في المقاومة، بنهجها السياسي العام، وعبر مؤسساتها جميعù مدنية وعسكرية،
ومن داخل هذا النهج السياسي تحتضن الدولة حركة المقاومة المسلحة من دون أن »تخنقها حبù«، وتقرّ لها بحقها بالاستمرار في تضحياتها وفي مواجهاتها اليومية الشجاعة كجهد مبارك على طريق التحرير، وترعاها »رعاية الأب الصالح«، فلا تقربها أكثر مما يجب وكأنها »فوج« من أفواج قواتها المسلحة، ولا هي تبتعد عنها أو تبعدها وكأنها قوة تغيير محتملة في الداخل تفرضها الضرورات ويذهب بها سقوط الأحوال الاستثنائية السائدة، وبالتالي فلا بد من التعامل معها كضيف ثقيل وإبقائها بالتالي »على باب الهيكل«، لا تدخله ولا يكون لها وجود حقيقي أو حقوق طبيعية فيه.
وإذا كانت الدولة قد استفاقت أخيرù فقرّرت أن تذهب إلى الجنوب، وبدعوة من بعض أهل الحكم فيها، فإن الذين سبقوها إليه تسبقهم مهجهم وأرواحهم لم ينتظروا دعوة من أحد، بل لعلهم قاتلوا الذين حاولوا منعهم من الوصول إلى حيث يطلبون التحرير أو الشهادة.
إن التضامن هو مع الجنوب الصمود، مع الجنوب المقاوم، مع الجنوب المقاتل، مع الجنوب المتصدي باللحم الحي للاحتلال الإسرائيلي،
إنه ليس تضامنù مع »جهة« بل هو تشرّف بالانتساب إلى اتجاه، إلى قضية، إلى الوطن.
هنا لا أحد يوزّع شارات صفراء على الآخرين.
لكن أهل الجنوب (والبقاع الغربي) سيباشرون توزيع شهادات حسن السلوك على حكامهم جميعù بعد العودة من النبطية. فالمعيار ليس في الدعوة أو في تلبيتها، بل في مدى التحوّل الذي سيطرأ على مسلك الحكم جميعù إزاء قضية في مثل خطورة تحرير التراب الوطني وقداسة تعزيز صمود أبناء الأرض فيها.
ومن دون ادعاءات فارغة وإن كانت تدوي كالطبل، فالناس ينتظرون أن يسمعوا من الحكم ليس كم رصد من أموال للتعويض عليهم عن أضرار الغارات والقصف والقتل اليومي، ولكن: ما هي سياسة الحكم تجاه أبناء الشريط المحتل، وماذا أعد من خطط لتدعيم الصمود في المناطق المحررة، خطط تتعدى التعويض إلى تعزيز صمود الناس »في« أرضهم.
لقد سمع الناس عن قوانين برامج، وعن مشروعات »مترفة« كمثل الهاتف الخليوي وقصر المؤتمرات وإعادة بناء المدينة الرياضية وتجميع المدارس الرسمية (التي باتت بلا تلاميذ تقريبù، وأحيانù بمعلمين أكثر من التلاميذ)،
وسمع الناس ويسمعون عن تعويضات إخلاء لمن احتلوا بنايات (بعد الحرب)، ولمهجرين لم يكونوا في أي يوم مهجرين،
وسمع الناس ويسمعون عن صفقات تهدر الملايين وعشرات الملايين من الدولارات في »التزامات بالتراضي«، أو في تعهدات لتنفيذ مشروعات سرعان ما ينقضها المقاولون فينصرفون عنها أو »يطردون« منها مخلفين وراءهم خنادق تغرق فيها السيارات بركابها والمارة بأثقالهم من الهموم اليومية، الخ،
وباختصار فإن الناس يريدون أن يسمعوا من الحكم »خطة صمود«، مع وعيهم بصعوبة الظروف التي تعيشها المنطقة… خطة لها مقوماتها، ولها مواردها، ولها برامجها التنفيذية طويلة الأمد، الرصينة بحيث يمكن تصديقها، والمتواضعة بحيث تغلب على شكلية التضامن الاحتفالي.
للمناسبة: ألم يكن من الأجدى أن يعتبر يوم غد الثلاثاء »يوم عمل« يعود ريعه لخطة الصمود تلك، بدل أن يكون يوم إضراب، أي يوم »بطالة«، يحوّل رحلة أهل الحكم إلى الجنوب إلى »بيكنيك« أو »فسحة« كالتي سيقضيها المتبطلون في بعض نواحي الجبل القريبة يشوون اللحم ويكركرون بالأركيلة وهم يشربون على شرف الصمود »كاسك يا وطن«؟!
إلى متى يستمر النضال بالبطالة؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان