طلال سلمان

تأملات صحراوية من فوق أبراج دبي و»بيانها«

من بيروت الى دبي: من الماضي الذي مُنع من الامتداد الى المستقبل، الى المستقبل الذي يجيء من خارج الماضي، وإن كان اصطنعه او سعى اليه رجال يملكون الرؤية والعبقرية التجارية، في ظل ظروف سياسية مؤاتية.
تُحزنك بيروت وأنت تطل على دبي،
الكهرباء تفيض عن حاجة المدينة فتسفح انوارها على امواج البحر ورمال الصحراء،
ويطاردك الإبهار والانبهار حيثما توجهت في هذا المرفأ القديم الذي قرأ حاجة الآخرين فلباها وباعهم الخدمات التي يريدونها سواء على الارض او في الجو او في الخليج المقفل من الطرف العربي والمفتوح من الطرف الآخر، نصف العربي، على الدنيا القديمة التي تأخذ طريقها الآن الى صدارة الدنيا: آسيا، بشرقها وجنوبها »ونمورها« المتميزين.
اختفت دبي القديمة، الا اهلها.
واختفت دبي الثمانينيات ايضاً الا بحرها وبرها.
وأخذت تبزغ دبي الألفين بالابراج والاسواق الضخمة والشوارع الفسيحة، و»الخور« الذي تحول الى مسرى »للغندولات« تحيط به الحدائق ويقوم عند نهايته ملعب الغولف (الثالث من نوعه في دبي، والمضاء ليلاً لهواة اللعبة الآتية من اليابان فقط لممارستها في الفاصل بين نوبتي عمل…).
أن تحكم بعقل تاجر ناجح خير من ان تتاجر بعقل حاكم متخلف او قاصر او صاحب اغراض صغيرة.
* * *
مناسبة الزيارة دعوة كريمة من اسرة تحرير الزميلة »البيان« التي يتولى رئاسة تحريرها الزميل المسكون بهاجس التقدم خالد محمد احمد، يعاونه رئيس اتحاد الكُتّاب والأدباء المتنكر في ثوب الصحافي عبد الحميد احمد، ومجموعة من الزملاء الآتين بهموم أمتهم قبل الهم المهني من اقطار عربية عدة.
»البيان«: كان طموح من اصدرها ان تكون »فايننشال تايمز« العربية. كان في ذهنه ان يصدر صحيفة تقدم المال والاقتصاد والتجارة على السياسة. ولذلك اختير ورقها ملوناً، مثل لون ورق الصحيفة البريطانية المتخصصة… كذلك فقد تميزت، بعد اللون، باسمها المائل، اذ وضع في الزاوية اليمنى من الصفحة الاولى، وليس على امتداد »الرأس«.
و»البيان« هي، من حيث المبدأ، الجريدة الناطقة باسم »حكومة دبي«.
لكن الصحافة يصعب ضبطها وفق النغم »الرسمي«… ولأن خالد محمد احمد هو صحافي بتكوينه، فإن هاجس النجاح المهني يدفعه دائماً الى البحث عن صيغة مبتكرة توفق بين مصالح الحكومة المالكة وبين مقتضيات الصحيفة القادرة على المنافسة والتقدم، خصوصاً ان دبي واحدة من اكبر اسواق الاعلانات في المنطقة العربية، ولذا فإن صحف الامارات الكبرى الثلاث (الاتحاد، الخليج والبيان) تصدر بصفحات عديدة قد تصل في بعض الايام الى 48 صفحة.
* * *
هل انفصلت الصحافة عن السياسة؟
أم هل اندثرت السياسة فباتت الصحافة واحدة من الحرف ينحصر دورها في المساحة الضيقة بين الاعلام والاعلان؟!
أي هل الصحافة، بعد، مهنة سياسية او متصلة بالسياسة، ام انها تحولت في غياب »الحركة السياسية« الى مجرد »واجهة للعرض« اكثر منها منتدى للحوار، تطلق النقاش وتنظمه حول هموم اليوم وطموحات الغد، وتغذي الجدل بحيوية فكرية يستولدها تصادم الاجتهادات وتباين التحليلات المعبرة عن المصالح المتباينة للقطاعات المختلفة في المجتمع؟!
بمعنى آخر: هل الاعلام عموماً، والصحافة خصوصاً، »سلطة« في بلادنا العربية؟!
كثيراً ما تُطالَب الصحافة بما يفوق قدراتها.
فالبعض ينظر اليها، متأثراً بتجربة الغرب، وكأنها احدى وسائل التغيير، في حين انها لا تحتل في البنية الفعلية للسلطة والمجتمع الموقع المؤثر الذي يمكّنها من ترجمة »تمنيات« جمهورها الى »حركة«، او من تحويل »آراء« العاملين فيها الى »قوة تغيير«. وغالباً ما تقمع قدرتها على »التعبير« ذاته.
لا تهبط »الديموقراطية« بالمظلة على الصحافة، فتجعلها واحة للحريات السياسية في صحراء الصمت والفراغ والسلطة المطلقة.
ولا تستنبت الاحلام التغيير.
ولا ينقلب المجتمع، فجأة، بالتمني او بالسحر، ومن خارج قانون التطور والحركة وصراع المصالح بالقوى المعبرة عنها.
والصحافة العربية محكومة بأن تظل تراوح حركتها بين طموح عاجز لا تبرره ولا تسمح به الحياة السياسية القائمة، وبين الاندراج في المنطق السائد: توصّف اكثر مما تناقش، وتحمل الى الناس اخبار الامس اكثر مما تفتح نوافذ على الغد، وتقدم الحاكم على المحكوم لأنه صاحب القرار، كما انه »المتحرك«، في حين ان المحكوم »يتلقى« فحسب… قد يعلق بالرضى او بالسخط، لكن رد فعله لا يتعدى التعليق الذي غالباً ما يتخذ شكل »النق«، ونادراً ما يرتقي الى مستوى »النكتة«، وهذا أرقى اشكال »النضال« العربي المعاصر.
* * *
مبروك للرصيفة »البيان« عيدها السادس عشر،
لكننا مع زملائنا فيها وفي كل صحيفة عربية سنظل نعيش تحت وطأة مضمون الصفحات اكثر من هاجس »عددها«.
الطريف ان النضال الشاق من اجل زيادة عدد الصفحات بزيادة الاعلانات، اي بزيادة الدخل، غالباً ما يفرض اعادة النظر في المضمون،
والمعادلة هي: مضمون افضل بصفحات أقل، اي بدخل أقل، والدخل الأقل لا يتيح فرصة معقولة للمنافسة، او مضمون أقل بصفحات اكثر، اي بدخل اكثر، وكلما أريد تحسينه تناقص المضمون، وانقلبت الصحافة من دور الى واحدة من الحرف التجارية المجزية.
* * *
الصحراء والشعر والأغنية
ليل الصحراء هو الشعر.
لكم هو فصيح ذلك الصمت العميق والساجي والمستدر لأرق المشاعر وأبهج الاحلام.
لا تزهر الاحلام في علب السردين الاسمنتية.
تحتاج الاحلام الى مدى وإلى هواء طلق والى صمت تسرح فيه فتعيد خلق الدنى، مزركشة، قشيبة، زاهية كضحكة طفل يدغدغ خاصرة أمه ليضحكها ويفرج همها.
الترف يقتل الشعر،
أين الشعر اذا صارت الأمنية أمراً على طريقة »كن فيكون« وفاض المتوفر، في كل مجال، عن الحاجة؟!
الصحراء هي الصعب، وإنسانها يستشعر تميزاً لأنه استطاع تجاوز التحدي واستيلاد الالفة والصداقة بل الانتماء الى تلك الارض التي ليست ارضاً.
ولكل حي في الصحراء، او شيء، معنى مجسم يفوق المألوف: للطائر، للحيوان، للنبتة، للنسمة، لضوء القمر، للغمامة، لندى الفجر، لرجع الصوت، لهسيس الرمل وهو يزحف خفيفاً، خفياً الى ان يصطنع في مكان ما من الارض، واقعاً »جغرافياً« جديداً…
والنار في الصحراء اغنية ولا أشجى.
انها »مجردة« كالخيال، تزغرد ألسنتها ولا صوت، ويعلو لهيبها ولا خطر، لكن عرائس الجن جميعاً تجيء إليها فتتخذ من المساحات المشلعة بين العتمة والضوء ملاعب لعبثها الساخر والماجن والمتهاوي على أقدام هذا المخلوق الاسطوري: الانسان!
مع سلطان العويس
وشيخه السعودي الشاعر
في »الزيد« كان اللقاء مع الشاعر سلطان العويس.
و»الزيد« واحة نشأت عليها قرية فقيرة، ثم حولها الى »مدينة« ريفية الخير الذي تدفق من بعد على أبناء تلك الاشتات من القبائل التي انضوت قبل ربع قرن في دولة الامارات العربية المتحدة.
لا أثر تقريباً ل»الزيد« القديمة غير عصبية ابنائها وتمسكهم بها موطناً ومسكناً دائماً، فإذا تعذر فمنتجع، او مزرعة او بيت ريفي يهربون اليه في الإجازات او طلباً للهدوء والراحة والغرق في صمت الصحراء المؤنسنة الآن بشبكة الطرق الحديثة والكهرباء ومياه الري.
المجلس تقليدي: يجيء »الحواريون« وبعض البطانة، ليكونوا في خدمة الضيوف المتوقعين دائماً، ويظل »الشعر« ضيف شرف عظيم المقام.
عندما وصلنا الى مزرعة سلطان العويس في »الزيد« كان في حضرته شيخ احدى القبائل السعودية المستوطنة بقعة غير بعيدة عن مكة المكرمة. وكان الشيخ الجهوري الصوت، المتين البنيان، الوسيم الطلعة والانيق الملبس، يروي »شعره« وكأنه على منبر الجنادرية!
كان يقدم للقصيدة بحكايتها، ثم تنطلق الابيات كقذائف مدفعية ثقيلة، مع »ضابط إيقاع« من اتباعه، يردد خلفه النهايات المقفاة، لتنشيط الذاكرة او استثارة الحماسة في السامعين.
وفهمنا، في وصلات »النثر« ان شيخ القبيلة السعودي الذي يقرض الشعر فصيحاً وعامياً، يحضر لرسالة دكتوراه في السوربون.
كان »الجمهور« عويسياً، ولكنه استمع تأدباً الى »قصائد« الشيخ السعودي متعددة المناسبات والاغراض، بعضها للتشكي من ظلم »المنصوب« وبعضها في الفخر، وبعضها الثالث غزليات فيها مناخ الشعر الجاهلي.
لولا المكيف وسيارات المرسيدس الفخمة في الخارج والمصابيح المنارة نهاراً لسافرنا رجوعاً عبر الزمن الى اي قرن خارج الدورة الحالية للأيام والعصر..
وتملكني خاطر ساذج طارحاً عليّ السؤال الصعب عن العلاقة بين ساعة »الكارتييه« الباهظة الثمن في يد شيخ القبيلة السعودي وبين شعره العفوي الذي يكرر، مبنى ومعنى، ما كان يقوله اجداده في ازمان غابرة، بغير ان يحس بالحاجة الى اضافة او تعديل وصولاً الى التجديد.
كان سلطان العويس يحاول التدخل، بين حين وآخر، مصححاً او شارحاً او مذكراً بأبيات مشابهة في المعنى او في المبنى لما يقوله الشيخ السعودي.
ثم زاد ضغط »الجمهور« على »ابي علي«، الذي انشأ منذ بضع سنوات جائزة باسمه يمنحها للمبدعين في مختلف مجالات الأدب والفن، نثراً وشعراً، رواية ومسرحاً، فحمل البعض ديوانه وأخذ يقرأ قصائد معينة اعظم وقعاً من تلك التي رواها الشيخ السعودي،
ولما استذكر نفر من الجمهور ام كثلوم ومعها مصر، انتقل الديوان الى يدي سلطان العويس، فقلب في صفحاته حتى عثر على قصيدته في رثاء ام كلثوم، ثم اخرى في تحية مصر.
قال سلطان العويس: ان الغناء المتميز يحتاج إلى ثلاثة: الشاعر والملحن ثم الصوت الجميل والحساس والعظيم الدربة.
وروى سلطان العويس بعض لقاءاته مع الشاعر الراحل احمد رامي، العاشق الأعظم لأم كلثوم، الذي كان يمضي اليها عصر كل يوم، فيجلس اليها كالمتعبد، وتسمع منه شعره وشعراً لغيره، وقد تناقشه في بعض ما قاله فيعدل فيه نتيجة لملاحظاتها الذكية.
دارت القهوة المرة، مرة أخيرة، وتهامس الحواريون ان قد جاء وقت القيلولة، وقام الشيخ السعودي مودعاً، فركب سيارة المرسيدس الفخمة التي اكرم بها بعض مشايخ دبي وفادته، وعدنا نحن نتابع رحلتنا عبر الصمت الصحراوي… الموزون والمقفى!
آخر الكلام
قال لنا البدوي وفي عينيه غضب مكبوت:
يكتبون الآن عن الجمل وكأنه مصدر خطر. ويقولون في الاذاعة والتلفزيون كلاماً بذيئاً عن الابل. صار الجمل، اليوم، قاتلاً!! يتهمونه بأنه يخرج عليهم في الليل معترضاً طريقهم، او يشرد نهاراً فيخيف السائقين وتخرج سياراتهم عن الطريق بفعل ذعرهم…
أنتم امة ناكرة للجميل.
أنسيتم فضل الجمل عليكم؟
صار الجمل اكثر خطراً عليكم من السيارة ومن الدبابة ومن المدفع ومن الصواريخ والطائرات، وهذه صور قانا امامكم؟
ثم التفت الي وقال:
يا هذا اللبناني… لا خير في هؤلاء الذين يعظمون خطر الجمل ويصغرون خطر اليهود. لعنة الله على كل اليهود، في الداخل والخارج.

 

Exit mobile version