في مطار امستردام وقف امام موظف بارق الصلعة داكن العينين يختلط فيه المخبر السري المتذاكي برجل العلاقات العامة المتظرف كما بحرس الحدود المبالغ في جلافته تعويضا عن النقص في صلاحياته.
لم يكن ثمة خلل في أوراقه: جواز السفر له بقية من عمر وفيه اكثر من صفحة بيضاء، والتأشيرة لخمس سنوات وهو لم يفد منها بعد، ولا يحمل من الاوراق النقدية اكثر مما هو مشروع… اما الافكار والآراء والعقائد التي كانت تخيف فتمنع، ذات يوم، فقد فقدت وهجها ولم تعد بالتالي مدار تحقيق او حتى استفسار بلهجة المستريب..
مع السؤال الخامس تصاحبه تلك النظرة البوليسية الفاحصة التي تسلك مساراً مقصوداً: من تحت إلى فوق، تكاثف في صدره الشعور بأنه يعامل بعدائية واضحة، بل باستهانة متعمدة..
حاول ان ينسب حرجه الى غباء الموظف الهولندي المكلف بمهمة أمنية اميركية فاستحال عليه ذلك، لان التشكيك الساخر بكل جواب اعطاه على اي من الاسئلة كان يفتح المزيد من الجراح في صدره ويؤجج غضبه المكبوت تفادياً لصدام لا معنى له مع هولندي اصلع وموتور قد يعطل وصوله الى الموعد الذي انتظره نصف عمره.
مع السؤال العاشر كان العرق قد اخذ يتصبب من كل المسام في جسده وكانت ثمة غشاوة تغطي الآن عينيه وعقله بينما الشعور بالمهانة يتفاقم وينقل الغضب من الصدر الى الذراع فقبضة اليد فالحبل الذي يفصله عن الحارس الهولندي للسلامة الاميركية.
لم يكن يحمل من الممنوعات الا بشرته السمراء،
ثم هناك اسمه،
واخيراً مهنته،
كل المواصفات المحددة لارهابي محترف ومخرب خطير!
اخيراً، ولسبب ما غير مفهوم بالقياس الى المقدمات، اطمأن داكن العينين الى ان صاحبنا لا يمكن ان يكون مصدر خطر سواء بالمعنى الفكري او الحضاري او الأمني او السياسي فتكرم عليه بأن سمح له بأن يذهب إلى الجمارك للكشف على حقيبته.
في المستودع شبه المعتم شعر انه مثل حقيبته بالضبط: شبه فارغ ومحشو بالمستعمل وشبه المستهلك اجمالاً من الملابس والتقاليد والافكار والاحلام التي لا تنجب إلا ذاتها.
امام البوابة المحددة للصعود الى الطائرة، انطوى على نفسه فوق المقعد المقعر وقد ثقل عليه الحزن وشعور بالضعة.
عادت به الذاكرة الى اول تجربة له مع السفر ومع »الغرب« في آن، فضاق به نفسه واحس انه يكاد يختنق… بحث بنظره عن الزاوية المخصصة لتأديب المدخنين ثم سعى إليها، وهناك اخذ ينفث مع الدخان بعضاً من رئتيه!.
كان الوقت ايلول 1962، والموعد في الجزائر العائدة آنذاك الى ذاتها وأهلها، لغة وقومية ودينا، تاريخاً وجغرافيا ودوراً… اما الطريق فكانت عبر باريس.
خلال التسكع السياحي في عاصمة النور الفرنسية دخل وصديقه الطالب في السوربون، آنذاك، متجراً، لشراء معطف خفيف.
اختار المعطف، وحمله، بعدما قاسه فوجده مناسباً، على ذراعه وتقدم الى الصندوق ليدفع ثمنه.
كان صاحب المتجر في نحو الخامسة والسبعين من عمره، قاسي الملامح حاد النظرات وبينه وبين كياسة التاجر وابتسامة الترحيب او المجاملة جفاء مزمن،
مد يده بالنقود إليه، فما مد الرجل يده، بل حدق فيه مليا ثم نطق بكلمتين فقط بهمس اقرب الى الفحيح: لا، شكرا!.
عفواً، ماذا؟!
سأله الرجلان مستوضحين فأوضح بصلافة: لا اريد ان ابيعكما، فانتما ان لم تكونا من الجزائر فإنكما مع »ناصر«.
تفجر الغضب جدلا ناريا خففت من حدته الزوجة اللطيفة للاستعماري العريق… ولكنهما حين تركا المتجر، بلا معطف، كان يحس بأنه اطول قامة من برج ايفل وامتن من حديد المسبوك بزخرفة جميلة توشي فتغطي قسوته الباردة.
لتذهب المعاطف الى الجحيم، وان يرفضه البائع العنصري شهادة له بقوته. لقد اعترف به الغرب مرغما. لم يعد بعضا من اتباعه او عبيده ولا بعضا من ممتلكاته. الكراهية في لحظة معينة تعكس اعلى درجات التهيب والاحترام، اما الاشفاق فلا يعني، غالبا، الا اختيار الطف الصيغ المخففة للاحتقار.
انتبه الى صوت المذيعة الداخلية تنبه الى ضرورة الصعود الى الطائرة فسحب النفس الاخير من لفافته وهو يقول في نفسه:
ستكون رحلة قاسية!! سقى الله ذكريات الرحلة الاولى.
وما ابعد المسافة بين الامس واليوم!! كل ما خلفك محزن، بل مفجع، بل مهين حتى ليكاد يلغيك، وكل ما امامك باهر، جديد، مبتكر، مبتدع، مغيِّر ومبدل للازمان والمسافات والقيم والمفاهيم، حتى ليكاد هو الآخر يلغيك.
أمس، قبل خمس وثلاثين سنة، ومع فرنسا، درة التقدم الغربي، كان ممتلئا ثقة وعامر الصدر بالايمان انه سيتمكن من اللحاق بالركب خلال جيل او جيلين على الاكثر، اما الآن…
واذا كان اللحاق بأوروبا قد غدا الآن اكثر صعوبة ويتطلب المزيد من الاجيال فكيف السبيل الى اللحاق بهذا العالم الاميركي الذي لا يفتأ يجدد خلاياه ودماءه بزهرة شباب الدنيا والنخبة المنتخبة من عقول المخترعين والمبتكرين ومطوري مبتكرات من سبقوهم؟!.
لم يستعد هدوءه إلا بعدما استقر فوق مقعده في الطائرة واستذكر ما هو فيه والى اين يتجه ولماذا والموعد المرتجى: ها ان ابناءنا يثبتون اهليتهم ويتفوقون او يماشون اقرانهم من جنسيات الدرجة الاولى… ها هم يؤكدون انهم، هم ايضا قادرون على اختراق الفضاءات والحجب والعقول والافكار والمفاهيم والقيم، بغير ان يسقطوا في شبكة العنكبوت الهائلة التي اسمها »الطريقة الاميركية في العيش«.
عادت تنغص عليه هدأته اسئلة لا حصر لها:
وماذا لو رفض صاحب امتياز التقدم ان يبيعه ما ينفعه في يومه وفي غده؟!.
في باريس كان يمكن ايجاد متجر آخر، او حتى الاستغناء عن المعطف، اما الآن ومع احتكار آلية التقدم وادواته وبرامجه وتطبيقاتها ولغاتها الجديدة، فكيف يمكن العثور على الباب؟!
ثم انه يومها قد شعر بالاعتزاز لأنه »ينتمي« ولأنه يملك خلفه رصيدا عظيما يمنحه المكانة والحق بالحلم بأنه سيلحق بالمتقدمين… كان في رصيده جمال عبد الناصر وثورته ومصر القائدة والرائدة، والجزائر الثائرة، والعراق وسوريا والخليج المضطرب برياح التغيير واليمن الخارجة من كهف الامامة الى فجر الثورة والتقدم بالجمهورية..
أما لآن فإنه بلا رصيد. بل انه »يسحب على الأحمر«. يستدين على الغد، وعلى أجياله الآتية غداً.
.. والمسافة الفاصلة مرشحة لأن تتسع كل يوم، رامية بشعوب الدرجة الثالثة الى هوة سحيقة لا اتصال بها ولا رجاء لها بأن تبلغ اولئك المندفعين الى اعلى وقد تجاوزوا المريخ!
صباح الخير يا عرب!
قانا في جنون جورج الزعني..
عاد جورج الزعني الى بيروت مسبوقاً، مثل العادة، بجنونه الرائع.
في كل غياب للمكحول عن وطنه ينجز ما يزيد من قيمته الوطنية وما يمد قامته طولا حتى لكأنه ينظر الينا، حين يعود، من علٍ.
الآن يجيء جورج الزعني وقد انجز مشروعا لتخليد قانا عبر انجاز فني راق، يريد ان يحوله الى معرض دائم والى »بصمة« تستقر فوق ضمير الانسان في كل ارض حتى لا تذهب الدماء هدراً، وحتى لا ينسى احد اسم السفاح الاسرائيلي واسماء الضحايا سمر الوجوه.
جورج الزعني يتصرف وكأنه »دولة عظمى«، فينفق ثمن أرغفته وجهد عرقه، ثم يفجع حين يكتشف بأنه مجرد رعية في دولة قيد التأسيس، يفضّل حكامها »الملموس« على »المحسوس« و»المقبوض« على »المسموع«، ويفكرون بالاموات كاستثمارات للاحياء، فإن تعذر استثمارهم قتلوهم مرة ثانية واخيرة بالنسيان.
جورج الزعني الذي لا تزال بعض بيروت الباقية تحمل شيئا من لمساته الجميلة، يحضر الآن الى جانب المعرض الذي يخلد »قانا« بتجميع كل ما كتبته عنها الصحف العالمية الكبرى (البريطانية والفرنسية والالمانية والايطالية الخ)، وقد أعاد صياغته فنان ايطالي معروف في لوحات رائعة تجسد الفجيعة بوجهيها: القاتل والضحية… يحضر كتابا يروي بالكلمة والصورة واللوحة المصغرة مأساة قانا، ويريد ان تتزود به مكتبة رئيس الجمهورية ليكون أفضل هدية يمكن ان يقدمها لضيوف لبنان الكبار، تخليدا للشهداء الذين أضافوا الى معنى لبنان والى قيمة حياة اللبنانيين واكدوا قدرتهم على مواجهة النار الاسرائيلية.
جورج الزعني لا يطلب تبرعاً، ولا يريد بيع اللوحات. انه يطلب مَن هو جدير بأن يحمل اسم »قانا« وبأن يزرعها في ضمير العالم أرزة تحمل انفاس الانسان في لبنان وتمده بأسباب وتعزز صمود وتحفظه دائما كبيرا.
حوار بين مطلقّين..
قال المطلَّق للمطلَّق: كيف تعود الى زوجتك الاولى؟ قد يرتكب واحدنا خطيئة، لكنك لم تكتف بأن كررتها مرتين بل ها انت تجترح سابقة خطيرة؟! أهو الضعف ام هو الخوف المبكر من شيخوخة آتية؟! أهي الخيبة ام هو الحب المستفيق من جديد؟!
رد المطلق على المطلق: بل هو الادمان. لم اعد اعرف ما هو الحب. لقد انتهى زواجي الثاني بعد ليلين وصبح، وافتقدت معذبتي الاولى. لعلني اكتشفت انها كانت تستحقني، او انني كنت كبيرا بها. اما الزوجة الثانية فكنت اجدني مضطرا الى التصاغر يوميا كي تصل الي. ثم انني كنت أمام امتحان يومي قاس وأمام مفارقة معنوية أقسى: فهي تأخذ من جسدي كثيرا ولا تعطي روحي الا قليلا. الاخطر اننا حين كنا نلتقي اصدقائي كنت لا ارى في عيونهم الا صورتنا في السرير. وفي لحظات معينة كانوا يسقطونني ليستبقوها وحدها، عارية، مهتاجة ومثيرة، تتربص بالرجال العابرين لتقيسني بهم.
قال المطلق للمطلق: إذن فقد سترت عيبك امام الآخرين، فماذا عنك مع زوجتك الاولى الثالثة الآن؟
رد المطلق على المطلق: حين قررت العودة اليها كنت قد القيت السلاح، وخرجت من الحرب تماما. المشكلة انني الآن صغير ولا استطيع ان أمط قامتي لأعادلها..
قال المطلق للمطلق: فماذا عن السرير؟!
رد المطلق على المطلق: اي سرير؟! ان داء المفاصل يحرمني متعة النوم. او تعرف طبيبا جيدا؟!
قال المطلق للمطلق: على كل ان يعرف طبيبه كما عرف مرضه.
رد المطلق على المطلق: هنيئا لك. يبدو انك تحب مرضك.. ولكن هل تراك عرفت الحدود بين الطبيب والمرضى؟! انني تائه بينهما يبعثني المرض الى الطبيب فيعيدني اليه ليشفيني من ذاتي.
قال المطلق للمطلق: هنيئا للذين لم يصبهم مثل هذا المرض، ولا يحتاجون الى علاج بعد. انظر اليهم، انهم جميعا أطول قامة منا، ان ترانا كنا دائما قصيري القامة.. لقد قص منا كل زواج بعض طولنا، فعساك لا تزحف غدا زحفا!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
لا يريدك ولا يحبك حبيبك ضعيفا متهافتا عليه ومتهالكا. لا المسكنة تزيد الحب ولا المبالغة في إظهار الوله تؤكده. لا يحتاج الحب الى شهود او الى تأكيدات او الى مقويات وإغراءات. الحب هو مصدر القوة، فان لم يمنحك الشعور بالاهلىة والتفوق والقدرة على الانجاز ففتش له عن اسم آخر غير الحب، وفتش عن شخص آخر غير الذي تبيعه او يبيعك الاوهام.