كان علينا أن ننتظر أربعاً وعشرين ساعة، فقط، لنتأكد من أن المشهد »الأجمل من حقيقة«، والذي احتل شاشات الفضائيات العربية كما الأميركية أين الفرق بينها؟! إنما هو أشبه بالمقدمة الموسيقية أو المؤثرات الصوتية الممهدة لخطبة إرهاب الإرهاب التي ألقاها الرئيس الأميركي المؤمن جورج و. بوش أمس في حماية جنود نشر الديموقراطية في سلاح الجو في كولورادو.
فأما المشهد فقد جرت وقائعه، أمس الأول، في بغداد وسط طقوس تذكر بديموقراطية أثينا (القديمة)، وتمّ خلاله تقديم هذه الكوكبة من الأبناء الشرعيين للنظام الجديد، في عراق الاحتلال الأميركي، إذ جلسوا متكأكئين، كتفاً لكتف، صامتين بدافع الرصانة وثقل المسؤولية التي حطت عليهم كجلمود صخر حطّه السيل من عل..
وأما توصيف المشهد فقد تولى تقديمه للعالم المخرج العبقري المتخصص في إعداد النهايات السعيدة لأفلام الحروب الأهلية، الأخضر الإبراهيمي، العربي بمقدار، الدولي بمقدارين، والذي تسيّره المقادير الأميركية حيث تستدعي الحاجة لإنجاز مهمة إرهاب الإرهاب.
لكن خلفية المشهد كانت هي الأهم والأعظم إثارة، إذ ما إن انتهت مراسم تنصيب حكومة »الدكتاتور بريمر« والوصف للإبراهيمي برئاسة أياد علاوي الذي تجمع وكالات الأنباء الدولية على وصفه بأنه »يرتبط بعلاقات وثيقة مع وكالة المخابرات المركزية الأميركية«، حتى كان جورج بوش »على الخط« لتهنئة هذا البديل غير المحروق من منافسه القوي رجل البنتاغون ورامسفيلد أحمد الجلبي، وإعلان دعمه المفتوح له في مهمة بناء العراق الجديد.
وفي خطبة »إرهاب الإرهاب بالإيمان« التي ألقاها جورج بوش، أمس، مقطع طويل عن أياد علاوي »الرجل المحترم«، والذي »أشاد بتضحيات الأميركيين الشجعان من أجل الحرية والديموقراطية في العراق الجديد«، مؤكداً أن »حكومته ستكون صديقة وحليفة ثابتة للولايات المتحدة الأميركية«.
لقد تحدث جورج بوش، إذن، إلى »زميله« الذي عيّنه موفده »الدكتاتور بريمر« ذو الوجه النحاسي والحذاء العسكري »رئيساً« لحكومة السيادة التي تم شحنها بالطائرات من واشنطن رأساً إلى بغداد والفلوجة وكركوك والموصل والنجف وكربلاء الكوفة والعمارة والديوانية والحلة والناصرية والبصرة والحبانية والرمادي، مع التنبيه على طياريها بأن يقصفوا كل »عرس« يلمحونه من علٍ، لأن سوء الظن من حسن الفطن فمن يدري كيف ستكون علاقة أطفال العروسين بالديموقراطية، ومن يضمن ألا يكونوا من الإرهابيين؟!
وتوكيداً لكون العراق »دولة حرة« فقد قرر جورج بوش، وكرر قراره أمس، بأن يعيد السيادة البكر إلى عراق الاحتلال في نهاية الشهر الأول لعلاوي، مشدداً عليه بأن يعتبر كل معترض في العراق (كما في فلسطين) إرهابياً لا بد من قتله!!
ولقد قرر الرئيس المؤمن ذلك بعدما كرز فعل إيمانه بأن الصراع ليس صراع حضارات، وليس صراع أديان، وبأن حضارة الإسلام حضارة إنسانية، وهو دين يتحمل مسؤولية الآباء والأمهات، ليخلص إلى أن الصراع هو صراع رؤى سياسية… وأن الشباب يجب أن يروا الأمل (ربما كما رآه أياد علاوي لا كما رآه الجلبي)!
اليوم، وبعدما »تكلم جورج .و. بوش«، صار بإمكاننا أن نفهم أكثر دلالات خطبة الإبراهيمي، أمس الأول، ثم الشروحات التفصيلية التي أدلى بها أمس، والتي ذكر فيها بأن »الأميركيين يحكمون العراق«، وأشار فيها أيضاً إلى أن »بريمر لا يمانع في وصفه بديكتاتور العراق، فلديه المال وصلاحية التوقيع«.
وبالتالي صار بإمكاننا أن نفهم، بلا مساعدة من أحد، لماذا جاء »رئيس الجمهورية« الجديد، خلف صدام حسين، وحده إلى الحفل بثيابه العربية: الكوفية والعقال، و»الزبون« والعباءة المذهبة الأطراف. لكأنها جائزة الترضية لشعب العراق الذي أغفلت خطب »قادته الجدد« عروبته إغفالاً كاملاً، لا يمكن إلا أن يكون مقصوداً… حتى من تحدث عن »أشقاء العراق« أغفل هويتهم القومية أيضاً، فكأنما من شروط الديموقراطية والإصلاح في العهد الجديد إسقاط العروبة عن جميع العرب ليمكن تنسيبهم إلى »الشرق الأوسط الكبير« الذي جرى استيلاد الحكومة العلاوية قيصرياً وقبل شهر من موعدها المقرر، ليتم تقديمها كإنجاز باهر لإدارة بوش إلى قمة الثماني في جورجيا، بعد خمسة أيام…
أما فلسطين فإن الرئيس المؤمن جورج بوش يرجئ أمرها إلى أن تتم »الإصلاحات« التي يطلبها في »العقلية الفلسطينية«، والتي يعالجها الآن صديقه أرييل شارون بمواصلة تهديم البيوت في رفح ومن حولها، وبقصف المدارس وقتل الأطفال وآبائهم في مختلف مدن الضفة الغربية، وبإقامة جدار الفصل العنصري لكي تكتمل خريطة الطريق إلى… الدولة في جيب الدولة الإسرائيلية، على طريقة الكانغرو.
ومع أن »رئيس الجمهورية« الجديد في عراق الاحتلال قد لا يكون »ياور بريمر«، كما يُراد له أن يكون، فهو قد ذكر بالتاريخ الرابط بين الحضارة السومرية والعشائر الشمرية، بمعزل عن »البريمرية« الطارئة والتي إلى زوال.
يبقى أن نشير إلى أن خطاب الرئيس المؤمن جورج بوش، أمس، يؤكد أن الحرب في العراق قد دخلت طوراً جديداً، قد يكون الأعنف، وأنها بالتأكيد لم تنته مع »المشهد الأجمل من أن يكون حقيقة«، الذي تابعناه، أمس الأول، بشغف من يتابع فيلماً من أفلام رعاة البقر، حيث يصير القاتل الأعظم »شريفاً«، يعبّر عن إيمانه بدماء الآخرين.
ولسوف تسيل، بعد، دماء كثيرة، فوق أرض الرافدين في ظل السيادة المستوردة بطائرات الموت من بلاد الديموقراطية الأميركية.. البعيدة.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان