غالباً ما كان يكفينا كعرب من زيارات كبار المسؤولين عندنا إلى »عواصم القرار« في الغرب، أن تنتهي »بالستر والسلامة«، أي بلا خسائر بلغت في بعض الحالات مستوى الفضائح، سواء في السلوك الشخصي أو في »زلات اللسان« السياسية، فضلاً عن »سقطات« تنسب إلى »سوء الترجمة«، أو التوجه إلى تلك المجتمعات المتقدمة بالكلمات الخشبية المرفوضة والممجوجة والتي لا يقبلها آخر راعي غنم في أريافنا المتخلفة.
ولقد تطلع كثير من العرب، فضلاً عن السوريين، إلى زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى فرنسا بكثير من الاهتمام، إذ رأوا فيها محطة مهمة ليس فقط في مسار هذا الرئيس العربي الشاب، بل في تقديم صورة أكثر إنصافاً للعرب عموماً، وفي طرح أكثر عقلانية لقضاياهم المحقة، واهتماماتهم الجدية، وأبرزها إثبات جدارتهم بالانتساب إلى هذا العصر بغير أن يفقدوا هويتهم ويمسخوا تاريخهم نفاقاً لأولئك الذين كانوا بين أسباب تأخرهم عن الركب الإنساني، أو ضياع الطريق منهم وسط ارتباكهم في حسم خياراتهم، إن على المستوى الفكري أو على المستوى السياسي بكل تبعاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الخ..
فبشار الأسد في »امتحان مفتوح« لإثبات الجدارة والأهلية منذ لحظة توليه زمام الرئاسة في سوريا، بعد الحقبة الطويلة من حكم أبيه الكبير الراحل حافظ الأسد، الرئيس الأبرز والأهم في تاريخ هذا البلد العربي العريق، بل وفي التاريخ الحديث لهذه المنطقة المثقلة بهموم ماضيها ومصاعب حاضرها والخوف على مستقبلها.
والامتحان يتخطى بالضرورة حدود سوريا، التي صار دورها مع حافظ الأسد أكبر من دولتها، والتي اكتسبت موقع »طرف مقرر« في شؤون المنطقة عموماً، عبر مسيرة حافلة بالأحداث الجسام والمثيرة بينها حروب بالسلاح فرضتها العدوانية الإسرائيلية، كما فرضها صراع المصالح فوق هذه الأرض المذهبة.
وفي مؤتمري القمة العربية، الطارئ في القاهرة، والدوري في عمان، وبينهما القمة الإسلامية في الدوحة، كان على بشار الأسد أن يثبّت خطاه على طريق »الموقف المتميز« الذي اشتهر عن أبيه الراحل… وقد نُسب الموقف يومها إلى »حماسة الشباب« حتى لا تلحق شبهة التقاعس أو العجز بأهل الحكمة من الكهول والشيوخ الذين يفضلون أن يعملوا »بهدوء« في المجالس المغلقة، وبعيداً عن »الجماهير« التي تفسد المناخ بمطالبها »الثورية« والتي لم تعد تتناسب مع موجبات العصر.
ولقد تميز بشار الأسد وأعاد إلى الخطاب القومي قدراً من الاعتبار مستنداً فضلاً عن يقينه إلى نصر لبنان المقاوم ووهج الانتفاضة في المباركة فلسطين.
ثم جاء »الامتحان الدولي« عبر هذه الزيارة الصعبة إلى فرنسا متعددة الوجوه والتي تأخذها طموحاتها أحياناً إلى ما هو أبعد من إمكاناتها، فتحاول كسب العرب بغير أن تشتبه بها إسرائيل، وتحاول أن تنال بعض الدور في المنطقة من خلف ظهر واشنطن، ثم ترضى بأن تكون »المترجم الفرنسي« لدور أوروبي لا يرقى إلى مستوى الشراكة فيقنع بدور »الوسيط« مع صاحب الشأن الأميركي.
ويمكن القول، بغير مجاملة أو انحياز، إن بشار الأسد قد نجح في »الامتحان الدولي«، كقائد عربي، وكرئيس لسوريا، أكثر حتى من نجاحه في مؤتمرات القمة العربية والإسلامية.
في المضمون كما في الشكل، كانت الزيارة شهادة جدارة لهذا الرئيس الشاب، فأثبت أنه »ابن عصره«، وأنه على رغم اعتزازه بأنه »ابن حافظ الأسد« فإن له مفاهيمه الأكثر حداثة، وأسلوبه المتميز في المواجهة من داخل المنطق القومي ولكن بغير انغلاق أو تحجر، وطموحاته التي تتخطى »نظامه« بغير أن يسقط في فخ تأكيد الذات بالتشهير بالسلف أو التنصل من تبعات تجربته الغنية.
لقد قدم نفسه كمشروع قائد مؤهل، لا تنقصه الثقافة، ولا تعوزه الشجاعة الأدبية للاعتراف بعيب أو بقصور: لم يباغته »مشاكس« بسؤال، ولم يحرجه مغرض باستفزاز، ولم تخرجه عن طوره الانتقادات، ولو ظالمة، أو محاولات التشهير المقصودة، بل ظل على رصانته، مضيفاً إليها أحياناً ابتسامة من كشف اللعبة.
لم يزايد بشار الأسد على العرب الآخرين، بل أكد على التضامن العربي، ولم يتودد إلى الغرب عبر تسفيه »التطرف« العربي، ولم يجامل في كل ما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، وإن هو حافظ على هدوئه وثقته بعدالة قضيته: دافع عن حقوق شعب فلسطين في أرضه وحيّا صموده في وجه المذبحة الإسرائيلية المفتوحة، وأنهى الكثير من الالتباسات حول العلاقة مع لبنان (أبرزها حكاية مزارع شبعا وتبعيتها)، وتبنى قضية شعب العراق وحقه في الحياة الكريمة وبالتالي في رفع حصار التجويع والإذلال عنه.
تمسك بالثوابت وبالشرعية الدولية، ولم يترك لمحاولات الاستدراج أن تهبط به إلى »شخصنة« الصراع مع إسرائيل، فتجاوز من يحكم في تل أبيب إلى موجبات السلام التي لم تلتزم بها والتي لا يبدو أنها ستلتزم بها محذراً من أن هذا النهج الخطر يجعل احتمال الحرب أكثر جدية مما يقدر فقهاء العملية السلمية.
ومع أن أولى نتائج الزيارة انفتاح الطريق عريضة أمام علاقات وثيقة جداً بين سوريا وفرنسا، إلا أن »الصورة الدولية« لبشار الأسد اكتسبت ملامح أكثر إشراقاً، فهو صاحب منطق متماسك، هادئ النبرة، يحسن عرض قضيته بالاستناد إلى تجارب التاريخ ودروسه، على طريقة حافظ الأسد الكبير، مع توكيد لعصريته بغير مبالغة، فهو ابن عصره بغير أن ينفي كونه »ابن أبيه«.
لقد نجح مع »اليمين« في فرنسا، كما مع »اليسار«، مع الرئيس والحكومة ثم في ذلك الفحص التحدي في قلب الجمعية الوطنية الفرنسية، فضلاً عن تصرفه اللبق والشجاع في مواجهة المتطرفين من يهود باريس في قلب بلديتها… الممتازة، فعلاً، (وليس كبيروت المهيضة الجناح).
وصحيح أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك قد عوّد الفرنسيين (وغيرهم) على الخروج على البروتوكول، في لحظات محددة، إلا أن إقدامه على زيارة الرئيس السوري في مقر إقامته لوداعه جاءت لتعبّر عن إعجابه بهذا النجاح الاستثنائي للإطلالة الدولية الأولى لبشار الأسد، ومن فوق المنبر الباريسي العالي.
وتقضي الموضوعية بالتنويه بلمسة الرقي التي أضافتها السيدة أسماء بشار الأسد، إلى مستوى »زيارة الدولة«، إذ أكدت جدارة المرأة العربية وأهليتها وعصريتها، وبهذا اكتملت عناصر نجاح هذه الإطلالة الدولية.
إن بعض النجاح يمكن أن يُنسب إلى هذه السيدة الأنيقة الحضور واللباس والابتسامة، والمعنية بوجوه التقدم والتي تتعرّف إليها من موقع المشارك وليس من موقع »المتفرج« أو »المشتري« للتباهي بفلوسه وليس بقدرته على توظيفها لخدمة حق شعبه في أن يتقدم نحو غده الأفضل بثقة صاحب الحق وصاحب الأهلية في المشاركة في الإنجاز.
.. وما بعد باريس سيكون أخطر وأبعد أثراً.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان