مقدمة خارج السياق
بمعزل عن الحرج الذي يشعر به الحكم في لبنان، وعن الجرح الذي يؤلم اللبنانيين بسبب سقوط لبنان سهواً (؟!) من جدول مواعيد وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت، فلا بد من جعلها موضوعاً للتعليق، خصوصا وقد تساوينا جميعاً مسؤولين وصحافيين ومواطنين فصرنا مجرد معلقين على الزائرة وإنجازاتها في مختلف المحطات التي توقفت أو ستتوقف فيها..
ويستطيع الحكم غداً أن يقول: إنها مجرد الجولة الأولى، وهي للتعارف والاستكشاف فحسب، ولكنها ستضطر إلى أن تجيء إلينا فتسمع منا متى جد الجد!
سياق خارج المقدمة..
ثرثرت مادلين أولبرايت أكثر مما يجب في تل أبيب (ثم في رام الله)، فأفقدت جولتها الأولى في المنطقة الصعبة التي تختزن وتعيش صراعا تاريخيا متفجرا ومفتوحا على كل الاحتمالات، الكثير من الوقار المتناسب مع موقعها والكثير من وهج الصرامة والحسم اللائق بالاطار الذي ترسمه بعناية من حول ذاتها والذي يكاد يصورها بلا عواطف وبلا تلك الرقة التي تتميز بها النساء.
ربما لهذا لم تجد أولبرايت ما تقوله علناً في دمشق، لا عند وصولها إليها عصر أمس ولا عند مغادرتها ليلاً، في الطريق الى لقاء الرئيس المصري في الاسكندرية اليوم.
ولعل أولبرايت قد شعرت بشيء من الغضاضة لأنها وصلت الى دمشق في غير الصورة التي تمنّتها لنفسها فيها، والتي كانت تريد وتقول انها ستجعلها مختلفة عما ألفه الناس في لقاءات الرئيس السوري حافظ الأسد مع سلفيها اللذين جاءت بهما إليه »العملية السلمية«: جيمس بيكر، بداية، ثم وارن كريستوفر على وجه الخصوص.
فالأرجح أن »المرأة الفظة والتي لا تعرف المجاملة« قد وصلت الى دمشق وهي تشعر بأنها »مكسورة«، وأنها قد فقدت في المحطة العقدة، ومع »الصديق القديم« الذي استقبلها برفع الكلفة بشكل استعراضي فناداها باسمها الأول مجرداً، جلال أسطورتها التي كانت تحتاجها بشدة في لقائها الأول مع الرئيس السوري.
قبل أن تصل كانت قد جعلت الصحافيين المرافقين لها كما الذين يتابعون حركتها يدخلون في رهانات متعددة، حول الوقت الذي ستمضيه معه، تاركة لديهم الانطباع بأنها »لن تجلس إليه ساعات طوالاً تستمع الى دروس في التاريخ«، فهي »متعجلة«، ثم ان ما تريد قوله محدد وقاطع الوضوح.
لكنها حين وصلت لم تكن متعجلة، وجلست فاستمعت بأكثر مما تحدثت.
ومع أن من غير المرجح أن تكون قد تصببت عرقاً، فمن المنطقي الافتراض ان الرئيس الأسد قد نظر في عينيها وهو يستذكر كل ما قالته عن أولئك الذين »لا بأس من أن يتصببوا عرقاً« وهم ينتظرون قدومها المبارك.
لقد فشلت في أن تزحزح زعيم التطرف الاسرائيلي قيد أنملة: »لا أستطيع أن أزعم أنني قد حصلت على الكثير«!
يمكن القول ببساطة انها قد عادت من تل أبيب بخفي عرفات الذي وافقها، بل وزايد عليها في اعتبار »الارهاب«، لا الاحتلال ولا الاستيطان، هو المشكلة الأولى والأخيرة، وهو الشرط الأساسي لعملية السلام.
ولعل مادلين أولبرايت قد نطقت بما يضمره ياسر عرفات حين فتح لها »إذاعته« في رام الله لتوجه منها الى الفلسطينيين النصيحة السامة والمحرضة على الحرب الأهلية داخل صفوفهم المبعثرة والمفككة والتي قالت فيها: »لا عدو للفلسطينيين أسوأ من حماس والجهاد الاسلامي. وقوات الارهاب (هذه) تصادر أحلامكم المستقبلية وتزيد من معاناتكم الراهنة«.
برغم هذا كله لم يتكرم عليها صديقها القديم، الذي يتصرف مع رئيسها بيل كلينتون وكأنه »الملك داوود« على ما يقول بعض كبار البيت الأبيض، بأي »تنازل« تستطيع أن ترشو به »السلطة« لتعطيه أكثر (إن كان بقي أكثر)…
أقصى ما حصلت عليه من نتنياهو الوعد بأن يرسل الى واشنطن بعض مستشاريه ليثرثروا مع بعض مستشاري عرفات الكثر، وبعد ذلك تلتقي هي في نيويورك، وعلى هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، كبير المتنازلين محمود عباس (أبو مازن) وديفيد ليفي، لعل وعسى..
أما أبلغ ما توصلت إليه في تلخيص الموقف فهو قولها: »في السيرك على البهلوانيين أن يلتقوا، ومن يحاول مساعدة البهلوانيين يختَر الوقت الملائم. اننا شبكة الأمان، لكن عليهم أن يقفزوا«.
والتوصيف غير دقيق تماما، إذ إن نتنياهو يقدم نفسه باعتباره مروّض الفهود والسباع وليس بهلواناً، بينما الآخر كثيراً ما ترك صورة البهلوان الى مهرج السيرك.
على هذا فلقد كان أقصى ما يمكن أن تصل اليه اولبرايت في دمشق هو التعهد بأن تستمر المباحثات من أجل محاولة إحياء »العملية السلمية« التي ولدت في واشنطن وتعرضت لمحاولة اغتيال أولى في تل ابيب على يدي اسحق شامير، ثم انقذها انقلاب رابين »الاميركي«، قبل أن تقتلها رصاصات التطرف الاسرائيلي معه، والتي يتصرف زعيم التطرف الآن وكأن وجوده على قمة السلطة يؤكد موتها النهائي واستحالة عودتها الى الحياة.
ولأن مادلين اولبرايت لا تملك شجاعة نظيرها الفرنسي فهي لا تستطيع ان تتخذ موقفاً كالذي اتخذه، والذي اختار لتوقيته أن يقوله بينما هي تتلقى »صفعات« نتنياهو، وبينما الرئيس رفيق الحريري في باريس يعرض، باسم لبنان وسوريا، مشروع إنقاذ للعملية السلمية، قد يجد كثيراً من الانتقادات، ولكنه لم يجد من يأخذه بالجدية المناسبة.
أما الرد الاسرائيلي عليه فيمكن استخلاصه من الاغارات الليلية التي نفذها الطيران الحربي الاسرائيلي، على مواقع الجيش اللبناني في الجنوب فأسقطت بين صفوفه شهداء وجرحى اضافة الى الإصابات العديدة بين المدنيين الذين كانوا يفترضون انهم آمنون تحت مظلة.. اولبرايت.
… وفي انتظار الجولة الثانية لوزيرة خارجية »كلينتون الثاني« تتجه الأنظار الى مصر والسعودية، وبالذات الى لقاء اولبرايت مع وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي، حيث يفترض أن تسمع ما يتناسب مع ما تحمله (او بالاحرى ما لا تحمله) من لقاءاتها المتكررة (والعبثية) مع المزدهي بتطرفه والمستهين بالعرب جميعاً والمستخف بالعالم كله ربما لأنه يبالغ في تقدير قوته ويراها مطلقة: بنيامين نتنياهو.
وليس أقل من أن تجيء المواقف في الاسكندرية ثم في جدة متكاملة مع الموقف السوري، ومتماسكة في وجه الصلف الاسرائيلي غير المحدود.
ولعل هذا ما تطلبه مادلين اولبرايت كختام لجولتها الاولى حتى لا تكون فشلاً بالمطلق.
حاشية خارج السياق:
في أخبار الأمس أن »شعب« البوسنة الذي لما يخرج من اتون الحروب، أهلية ودولية، قد دعي إلى انتخاب مجالسه البلدية في مختلف أنحاء البلد الممزق!
يبدو أن الحكم في لبنان ما زال يعتبر البلاد في حالة حرب أهلية، لذا فهو يرفض بإصرار عنيد أن يجري الانتخابات البلدية في ظل الازدهار السائد.
حاشية داخل السياق:
الحكم نفسه القائم بالأمر الآن في لبنان لا ينفك يباهي بأنه إنما جاء »ثمرة« انتخابات نيابية حرة ونزيهة وبنت اشراف أوصلت الى المجلس النيابي 128 »زعيماً« شعبياً، إذ إن معظمهم قد حاز من الأصوات النظيفة ما يكفي لانتخاب مجموع المجالس البلدية في لبنان.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان