الحمد لله على أن الأخوة الفلسطينيين ما زالوا يقبسون من التجارب الناجحة للبنان المقاوم في جهده الباهظ الكلفة لتحرير أرضه، ولا يلتفتون إلى ما أصاب التحرير على امتداد الشهور الماضية من تشوهات، ثم ما لحق به من أذى معنوي فادح خلال الاحتفالات بعيده الأول.
والحمد لله على أن الأخوة الفلسطينيين ما زالوا متفقين على »هوية« أرضهم التي تحت الاحتلال، ولم ينقسموا حول حدودها وملكيتها ومن ثم تبعيتها السياسية، كما حدث لمزارع شبعا التي يُنكر البعض لبنانيتها »ليحرروا« أنفسهم أخيرا من عبء المقاومة، في حين يكاد يرفع البعض درجة قداستها بحيث توازي فلسطين بالقدس والمسجد الأقصى، بل ويكادون يقدمونها على أمن لبنان وأمن سوريا معا، في حين أن القضية اليوم فلسطين.
الحمد لله على أن جهد الانتفاضة المباركة داخل الأرض المحتلة ما زال ينصبّ على مواجهة »إرهاب الدولة« في إسرائيل، خصوصا وقد أوصلته الحنكة السياسية لأرييل شارون إلى ذروة لم يبلغها في أي مكان أو زمان، حين أطلق الطائرات المقاتلة الأميركية أف 16 لتدك مخيمات اللاجئين داخل وطنهم والسجون والمنازل التي لا يفصلها عن المطار الذي انطلقت منه الطائرات الحربية أكثر من… رمية حجر!
الحمد لله على أن الأخوة الفلسطينيين لم ينقسموا، بعد، من حول دور »السلطة«، وهل قامت وتقوم بواجبها في الأراضي التي تم تحريرها أم هي مقصرة فيه، وهل هي »تمثل« كل الفلسطينيين، بمن فيهم من يعارضها في مواجهة الخطر الإسرائيلي الداهم أم أنها منتقصة الشرعية بسبب من نقص إقبالها على الحوار أو نقص شهيتها إلى إدارته وهضمه.
الحمد لله على أن الأخوة الفلسطينيين لم يجرّبوا هذا الترف اللبناني الفريد في بابه حيث تبدو للدولة عبر كبار المسؤولين فيها مواقف متناقضة إلى حد التضاد، فيلبس بعضهم لبوس الحرب الدائمة بينما يبحث بعضهم عن مساعدات وقروض صعبة وهبات مستحيلة لإعادة بناء ما تهدم ومحاولة استعادة الدور الذي كان للبنان، ولو منقوصا، والتمسك بالعملية السلمية ولو تبدى وكأنها في غيبوبة الموت، تاركاً لإسرائيل شارون أن تتبدى في صورة من لا حياة له ولا مستقبل خارج الحرب ودائرة الموت المفتوح أبداً.
لقد انتصرنا على إسرائيل القوية، لكننا نعجز عن حماية انتصارنا بسبب من ضعفنا في مواجهة أعباء ما بعد التحرير.
والمفارقات، هنا، أكثر من أن تحصى، وبعضها مخجل بأكثر مما يسمح به زهو الانتصار التاريخي، ومنها:
{ كيف نتمكّن من إجلاء »أقوى قوة عسكرية في الشرق الأوسط« ثم نعجز، أو نصوَّر وكأننا عاجزون عن ضبط الأمن في المنطقة التي كانت تحت الاحتلال… ويترك لبعض الحوادث المفتعلة أو المرتجلة أو التي تستولدها روح الانتقام الشخصي، أن تشوّه نصرنا البهي، فتسمح بمقارنة ظالمة بل ومتجنية تظهر الإسرائيلي وكأنه كان مصدر أمان لمواطنينا تحت احتلاله؟!
{ كيف، في ظل المقاومة المجيدة، ظل ممكناً مواصلة أعمال البناء وإعادة البناء وترميم ما يتهدم وإصلاح ما يدمر أو ينسف، ثم فجأة وبعد التحرير، توقف كل شيء ما عدا الاتهامات المتبادلة بين أركان الحكم في التقصير أو الإهمال المتعمّد والتذرع بالأزمة الاقتصادية للامتناع حتى عن إكمال ما كان بوشر به من إصلاح للطرق وتأمين لمياه الشفة وإيصال للتيار الكهربائي الى بعض المناطق المحتلة التي كانت إسرائيل قد ربطتها بشبكتها الكهربائية؟
{ ثم… كيف يمكن للدولة أن تقنع »الخارج« عبر جولات المسؤولين الكبار فيها، بمنطقها المقاوم، وبمنهجها للخروج من أزمتها الاقتصادية، بينما يكاد التعارض في المواقف »الرسمية« يشرذم الناس في »الداخل« ويقسمهم معسكرات متواجهة تتبادل في ما بينها حملات التشهير، بحيث ظللت الاحتفال بالعيد الأول للنصر بالمقاومة موجة من الحزن والتشكي والتظلم كادت تطمس معنى العيد؟!
* * *
يكتب الإسرائيليون في صحفهم: ان الانتفاضة الفلسطينية الجديدة تكتسب حيويتها من تجارب المقاومة في لبنان وبالذات منها تجارب »حزب الله«.
ويكتبون: إن الإنجاز اللبناني نموذج يحتذى..
أما نحن في لبنان فيكاد خوفنا على النصر يعادل خوفنا منه: لكأن أكتافنا أضيق من أن تتسع له، أو أضعف من أن تطيق حمله!
* * *
لا شماتة في الموت، حتى إذا وقع في صفوف العدو،
لكن الرد على »إرهاب الدولة« في إسرائيل بالوسائل المتاحة، وهي قليلة جداً ومكلفة جداً، يظل شرعياً ومشروعاً إضافة إلى ضرورته الحيوية.
لقد انتفض شعب فلسطين، سلمياً، رفضاً للاحتلال، ومطالبة بالحد الأدنى من الأدنى من حقوقه في أرضه، فردت إسرائيل بمذبحة مفتوحة التهمت حتى اليوم بضع مئات من فتيته ورجاله وأطفاله وصولاً إلى الرضع، وأكثر من عشرة آلاف جريح، فضلاً عن مئات البيوت والبساتين وعشرات »المصانع« والورش التي كانت تشكل مصدر رزق للعديد من العائلات الفقيرة..
حاولت إسرائيل اغتيال أسباب الحياة جميعاً في فلسطين، فكان طبيعياً أن تطور الانتفاضة أساليبها، وأن تسعى للتحول إلى حركة مقاومة، بما تيسّر من السلاح، طالما أن إسرائيل رفضت وترفض كل أشكال التفاوض، بل وتلغي الاتفاقات المعقودة وتتنصل منها، وتطبق سياسة الأرض المحروقة بكل أسلحة الدمار التي تملكها..
وهكذا لم يتبق أمام الفلسطيني غير أن يفجر نفسه بعدوه، لعله يفتح الطريق إلى الحياة أمام أطفاله في غدهم.
إن العمليات الاستشهادية هي السلاح الأخطر المتاح للفلسطيني: كأنما هو يفتح بالموت الطريق إلى الحياة!
.. في انتظار أن »يتخلص شارون من خوفه من المبادرة حتى لا يتهم بالاستسلام للانتفاضة«، على حد ما يقول »المنسق« الأميركي الدائم للاحتلال الإسرائيلي دنيس روس.
… أو في انتظار أن يسلِّم شارون بأنه لا يمكن أن يضمن الأمن للإسرائيليين بنشر الموت على طول الأرض الفلسطينية وعرضها.
على هذا فسيكون على إسرائيل أن تعيش في رعب مماثل للذي فرضته على الفلسطينيين… وهذه أبرز دروس التجربة اللبنانية التي انتهت بنصر سيظل إنجازاً تاريخياً مهما »شاغب« عليه السياسيون بحرتقاتهم المحلية التي نتمنى ألا يقبسها عنا الأخوة الفلسطينيون، في ما يقبسون!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان