طلال سلمان

الفلاح المصري… رئيساً: فلسطين تملأ المكان والزمان.. ولا حدود بين إسرائيل وأميركا

تقدم الرئيس حسني مبارك الى منتصف غرفة المكتب مرحباً: أخيرا جئتم.. أترون أن لا مشكلة في أن نلقاكم؟. مصر هي مصر دائما، مفتوحة للجميع وترحب بالجميع وتتسع للجميع، حتى لمن ينتقد..
وكان لا بد من رد التحية بمثلها فقلنا بعاطفتنا كما بعقلنا: هذا مؤكد، فمصر بلدنا جميعا، دولتنا الجامعة، لأنها الأعرق والأثبت فضلا عن كونها الأكبر، في حين أن العديد من الأقطار العربية لم تعرف الدولة إلا حديثا، وما زالت أريافا تسود فيها القبائلية والعشائرية أو الطائفية والمذهبية فتبدو كأنها أقوى فيها من فكرة »الدولة« ومن »مؤسستها«.
وتدخّل وزير الإعلام صفوت الشريف، من موقع المضيف، ليقول إن الرئيس كان بوده أن يستقبلنا من قبل، لكن حرصه على أن يعطينا فسحة أوسع من وقته أخّر اللقاء حتى اليوم، ليتم في جو هادئ..
زفر الرئيس مبارك بشيء من الغيظ المكتوم: وأي هدوء؟! إننا نعيش لحظة حرجة جدا، ولا نكاد نفرغ من معالجة هم ثقيل حتى يدهمنا هم أثقل!. شوفوا الوضع المأساوي في الأرض المحتلة! إن الخطر يتهدد الفلسطينيين في حياتهم وفي مستقبلهم. يتهدد الشعب ويتهدد السلطة! وموجات التطرف تتعالى وتكاد تنسف كل ما كان تم التوصل إليه! إن التوقيت عنصر في غاية الأهمية، وليس التوقيت في صالحنا الآن، إن اسرائيل تحاول توظيف التفجيرات التي وقعت في القدس وحيفا لتربط مع تفجيرات 11 أيلول في أميركا، وتريد أن تعطي لنفسها الحقوق التي أخذتها الولايات المتحدة لنفسها بعد التفجيرات فيها.
دار الرئيس مبارك من حول مكتبه وأشار الى كرسيين أمامه لكي نجلس وهو يقول: ربما كان جلوسنا هنا أفضل.
كان على الحائط من خلفه لوحة بآية قرآنية »إنه على كل شيء قدير«، ولوحة فرعونية رائعة الزركشة، وعلى الطاولة أمامه باقة ورد صغيرة لكنها عطرة الرائحة، وعلى الجدارين الآخرين من حولنا لوحتان كلاسيكيتان جميلتان لمبدعين مصريين.
***
كنا قد وصلنا الى »الاتحادية« حيث يمارس الرئيس مبارك عمله، عادة، قبيل العاشرة صباحا، مثقلين بأخبار الاجتياح الاسرائيلي بالنار لمقار رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية في غزة وجنين، وتدمير طائراته الثلاث (حوامتين يستخدمهما للتنقل بين الضفة والقطاع، وطائرته النفاثة الصغيرة لرحلاته الخارجية)..
كذلك فقد كنا متشوقين لأن نسمع من »الرئيس« ما يرد على الأسئلة الكثيرة التي تطرحها عناوين »الصحف القومية« وتعليقاتها حول الأوضاع الاقتصادية لمصر، وبالذات الأزمة التي عولجت في جملة قرارات أخرى بتعديل وزاري محدود ألغى وزارة الاقتصاد واستبدلها بوزارة التجارة الخارجية، وحصر العلاقة مع البنك المركزي برئيس الحكومة، بعدما كانت بعض التدابير قد تسببت في أزمة دولار خطيرة خفضت سعر الجنيه فطار الدولار الى خمسة جنيهات وكان قبلها ب 30،4.
كان الجو غائما، يبشر بزخة المطر الأولى هذا العام في القاهرة… أما الجو السياسي فينذر بعواصف هوجاء طليعتها »شارونية« وذراها في الحرب الأميركية على »الإرهاب الدولي« في ما اعتبر قاعدته: أفغانستان وأسامة بن لادن فيها.
.. والعرب عموما في موقع دفاعي ضعيف الى حد التهافت: لا موقع لهم في »التحالف الدولي«، تطاردهم اتهامات ضمنية بالتورط مرتين، كعرب وكمسلمين، بينما اسرائيل تتبرع بخدماتها الاستخباراتية الثمينة ثم تقدم نفسها كضحية أولى للإرهاب العربي، مستثمرة أي خطأ في التوقيت أو في الأسلوب لتأكيد مقولة شارون من أن »ياسر عرفات هو بن لادن اسرائيل«.
وعلى امتداد ساعات الأمس، كنا قد دخلنا في مناقشات مطولة مع زملاء صحافيين ومع مسؤولين سابقين ومع محللين استراتيجيين حول »خطأ التوقيت« في العمليات الاستشهادية الأخيرة… بل وكان ثمة إدانة ضمنية لهذه العمليات باستهدافها المدنيين، بلغت ذروتها بكلام صريح لشيخ الأزهر مفاده أن الاسلام يحرم قتل المدنيين الأبرياء (لأي دين أو عنصر أو دولة انتموا..).
وقبل أن نصل الى البوابة الخلفية للمبنى الأنيق الذي كان ذات يوم مقرا للحكومة الاتحادية (مصر سوريا وليبيا في أوائل السبعينات)، كنا قد أدركنا أننا نجيء في توقيت غير ملائم لحوار انتظرناه طويلا مع الرئيس المثقل بالهموم: محمد حسني مبارك..
***
مع السؤال الأول انصرفت الى تأمّل وجه هذا »الفلاح المصري« الطبيعي الذي يكاد يكون مرآة لأفكاره: فهو بسيط الملامح، ينضح طيبة وتفاؤلا، والعينان تشاركان في تجسيم الكلمات ودلالاتها فتنفتحان بالدهشة أو بالقلق، أو تتحولان الى بركتين رائقتي السطح مع الحديث عن النمو والتطور والمشروعات الجديدة التي تزيد من مساحة الأرض المروية لتتسع للمزيد والمزيد من المواليد المتكاثرين بمعدلات مرتفعة، وتوفر المزيد من فرص العمل للأجيال الجديدة بطوابيرها المتلاحقة من أصحاب المؤهلات فضلا عن ملايين الشباب الذين يشكلون قوة عمل هائلة.. والذين كثيرا ما يرحلون في طلب الرزق وفرصة تحقيق الذات الى أقصى الأرض، ولكنهم لا يهجرون مصر المحروسة ولا يقطعون بها الصلة أو يتنكرون لها.
البساطة منبع للوضوح: لا ادعاءات ولا تعابير فخمة أو خادعة، ولا تشاطر عبر التلاعب بالأرقام، ولا تفاصح في ادعاء الجهوزية لمهمات تتجاوز الطاقة.
ما زال حسني مبارك »طيارا« و»مقاتلا« يقصد هدفه المحدد، ينفذه كواجب ثم يعود الى »قاعدته« التي باتت الآن في اتساع مصر، في انتظار مهمة أخرى.
إنه لا يشغل نفسه بما هو خارج إطار هدفه المحدد: لكي ينجز الهدف لا بد من القراءة الصحيحة للوحات التحكم والاستماع الى قاعدة التوجيه حتى لا تأخذه »البغتة« أو يدهمه الخطر من حيث لا يتوقع.
ولقد لمحت، في لحظات، طيف شخصية »المواطن« العادي يغلب على موجبات منصب »الرئيس«: لا هو يتفلسف مدللا على ثقافة استعراضية، ولا هو يتحذلق في تبرير ما لا يبرر. لا يحب »الكلمات الكبيرة« والعبارات المدوية الوقع ولا يستخدمها، كذلك فهو يتجنب الكلمات الفاضحة للنوايا من باب: لنتحدث بأعمالنا أكثر منا بألسنتنا.
فلسطين تملأ الزمان والمكان.
ومصر ليست خارج »فلسطين« والمسؤولية عنها.
واسرائيل متداخلة مع أميركا بحيث يصعب تحديد التخوم بينهما، أما الفصل بينهما فمستحيل.. وكل فعل عربي تجاه اسرائيل لا بد من توقع رد فعل أميركي عليه…
ورئيس مصر يعرف ضخامة مسؤوليته ومسؤوليات بلاده تجاه فلسطين وشعبها، ويعرف صعوبة المواجهة مع اسرائيل الممتدة حتى واشنطن، ومع واشنطن التي تكاد تهيمن على العالم كله، في هذه اللحظة التاريخية المحددة.
لا بد من العمل النشط والدؤوب. لا مجال لليأس. لا بد من محاولة تبيان التمايز بين المصالح الأميركية، وفي الأرض العربية تحديدا، وبين المطامع الاسرائيلية.
وحتى لو أقفل ارييل شارون والظرف الأميركي الطارئ أبواب الجهد السياسي من أجل تسوية مقبولة، فلا بد من الضغط على هذا الساعي الى الزعامة في اسرائيل عبر الحرب والتطرف والمزيد من التطرف، ولا بد من السعي لمحاصرته انطلاقا من واشنطن لكي نستقدمه الى طاولة المفاوضات. من هنا فالدور الأميركي أساسي ولا بديل منه.
عند الحديث عن اسرائيل يتعالى الرئيس مبارك على عواطفه ويهتم بأن يستخدم معايير غاية في الدقة حتى لا يترك فرصة الإفادة من لفظة أو تعبير معين كذريعة لتبرير تطرفها وبالتالي اعتداءاتها. يجب أن تظل اسرائيل مكشوفة بتطرفها، بإسرافها في استخدام القوة ضد شعب شبه أعزل، برفضها للسلام، بنقضها للاتفاقات… ثم: بتهديدها، ولو في المدى البعيد، للمصالح الأميركية في المنطقة العربية (وربما في العالم الإسلامي كله).
بل لا بد من فضح دور اسرائيل »المشاغب« على المصالح الأميركية والذي قد يتحول الى مصدر تهديد لها، إذا ما استمر التطرف هو الحاكم أو موجه الحكم فيها.
»شارون ليس سياسيا بالمرة. لا علاقة له بالسياسة إطلاقا. إنه مهووس بالقوة. والقوة لا تحل أزمة شعب أرضه محتلة وحقه في الحياة منكور عليه«.
واضح أن للرئيس مبارك رأيا في قادة اسرائيل، من شامير حتى شارون… وواضح أنه يميز من بينهم اسحق رابين »الذي قتله التطرف الاسرائيلي«، وانه يفضل لو كان له أن يختار شيمون بيريز على نتنياهو وباراك وشارون بطبيعة الحال: »أنا ما كلمتوش غير مرة واحدة..«.
(لكن موجبات اللحظة الحرجة اضطرت الرئيس مبارك الى إيفاد وزير خارجيته أحمد ماهر، أمس، للقاء شارون، لعله وهو العائد من واشنطن مباشرة، يستطيع أن »يهدي اللعب«، ملقيا بوزن مصر الى جانب وقف جنون القتل الاسرائيلي الذي عاد مرة أخرى الى استخدام الطيران الحربي والحوامات في القصف والقتل وتدمير المنشآت..).
لا يخفي رئيس جمهورية مصر العربية رهانه: الحرب جنون، والسلام بالمفاوضات في فلسطين وتحت سقف المبادرة الأميركية الجديدة، القديمة التي أطلقها الرئيس الأميركي جورج بوش بلسان وزير خارجيته كولن باول، والتي يقرأ هو فيها »مشروع حل عادل، أو مدخلا الى حل عادل لمأساة الشعب الفلسطيني«.
الأوضاع العربية مصدر أوجاع… لكنه واقعي جدا: »نقبل العرب كما هم، ولا نتآمر ضد أي منهم، ولا نريد أن نثير الشكوك في نفس هذا الحاكم أو ذاك، ومستعدون للتعامل مع الجميع، حتى من أساؤوا ذات يوم إلينا وحاولوا الانتقاص من دور مصر… مصر أكبر من أن تخاصم، وأقوى من أن تهان«.
فإذا ما جاءت الإشارة الى محاولات التهوين من شأن مصر أو من أهمية دورها، فضّل حسني مبارك أن يترك للأيام أن تظهر الحقائق فتنصف مصر ودورها الجامع، المقرّب، المتضامن والحريص على كرامة العرب في كل أرضهم.
أما العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية فمن الثوابت، ومشكلاتها بل وتعقيداتها الكثيرة التي تتسبب في صدامات (مكتومة غالبا) وفي حملات صحافية متبادلة، وفي ضغوط سياسية أمكن باستمرار تجاوزها، فليست للتداول الرسمي في الإعلام.
***
وسط جو الهموم الثقيلة لم يظهر الارتياح على وجه الرئيس حسني مبارك إلا عندما ورد ذكر شرم الشيخ والمشروع الضخم في توشكا الذي سينتزع من الصحراء مساحات شاسعة ليحولها الى أرض مروية ومزروعة ومنتجة:
لازم تشوفوا شرم الشيخ وكيف تحولت الى مصيف ممتاز ومركز سياحي عالمي. كان فيها فندق واحد تباهى الاسرائيليون بأنهم شيدوه خلال فترة احتلالهم، وكان مبنى فقيرا جدا، أسرّته »دكة« من الاسمنت يطرح الفراش فوقها. شوفوها النهار ده، إنها شهادة جدارة للمصريين… أما توشكا فإنجاز طيب يوسع رقعة الأمل.
***
يحفظ الرئيس حسني مبارك للبنان عاطفة خاصة. وقد اهتم بأن يسألنا عن أحواله عامة، وعن اقتصاده خاصة، ولم نكن في موقع من يمكنه أن يبعث برسائل التطمين، وإن كنا بشرناه أن بعض أنحاء لبنان »تنوّر« بكهرباء مصرية..
ومع أن الرئيس مبارك يتخوف من أن يأخذ العتو بالقوة بعض المهووسين الأميركيين الى عملية عسكرية ضد العراق، وإن كان يستبعدها حتى هذه اللحظة، فإنه ثابت الاطمئنان الى رسوخ علاقة الود والتعاون والتضامن مع سوريا، والتنسيق معها مستمر، والاتصالات لا تنقطع، وفي تقديره أنها خارج دائرة الخطر، وانها غير مستهدفة بالتهديدات الأميركية، وإن كان التحريض الاسرائيلي عليها متواصلا لا ينقطع إطلاقا.
***
كان الوقت قد مر سريعا، واشتد ضغط المواعيد المرجأة، لا سيما بعدما ارتفع صوت المؤذن بأذان الظهر… والتفت الرئيس مبارك الى الرجل الذي يرافقه بل ويلازمه كظله منذ عشرين سنة، تقريبا، هي مدة رئاسته، صفوت الشريف، فقال له: »لا تنس أن تدعو »السفير« لمرافقتنا في أول زيارة لنا للأرض الجديدة التي نستصلحها في توشكا«.
لقد أمكن انتزاع مساحة محترمة من الصحراء وريها بمياه تأتيها من بحيرة ناصر، فصارت وكأنها إحدى ثمار السد العالي.
وفهمنا أن علينا أن نترك الرئيس لمشاغله الأخرى، فقمنا ومشى لوداعنا، الرجل الذي يؤدي مهام موقعه كوزير للإعلام بدأب، فلا يغيب أبدا، بل يتولى لقربه من »الرئيس« وفهمه لتوجهاته وقدرته على ترجمة أفكاره، نقل الرسائل وبعض »المهام الدقيقة« مع بعض دول الجوار.
عند باب المكتب، ووسط زحمة الآتين للقاءات أخرى مع الرئيس، تركنا صفوت الشريف في عهدة رئيس مصلحة الاستعلامات نبيل عثمان الذي »قاتل« في مواقع كثيرة، وعلى جبهات خارجية متعددة قبل أن يستقر في موقعه فوق المركب الخشن للعلاقات الشديدة الحساسية مع الإعلام الخارجي.
.. ومن بعيد، أشار إلينا بتحية الوداع السفير ماجد عبد الفتاح الذي يقوم بمهام سكرتير الرئيس للمعلومات، وبمهمة »توضيح« ما لا بد من توضيحه من »الإشارات«.
أما حين صرنا في الشارع فقد استقبلتنا زخات مطر خفيفة رأى فيها القاهريون الذين لا تعرف مدينتهم المطر إلا نادرا، بشرى خير.
وكانت الإذاعات والفضائيات مشغولة بأخبار طوفان إرهاب الدولة الاسرائيلية في فلسطين… بينما بيروت تغتسل بمطر كانون الأول وطلائع ثلوجه المبشرة بمواسم أفضل هذا العام، إذا توفر لها من يطلبها، في المحيط العربي الفسيح!

Exit mobile version