ليس أقسى على النفس من أن تتواصل مع صديق عزيز وأنت تعرف أن الموت يترصده، وأن لقاءك اليوم معه قد يكون الأخير، وأن علاقتك معه قد استقرت في الذاكرة كشيء من الماضي، في حين أنه كان يعتبر نفسه وكنت تعتبره ممن سينقشون اسمهم على باب المستقبل.
ولقد عرفت أحمد الربعي منذ دهور، ولعلني قد قرّرت، ولعله بالمقابل قد قرر أننا صديقا عمر. لم نكن نلتقي كثيراً، لكن بُعد المسافة لم ينقص الود، ولا التقدير، ولا المناكفة، كذلك فإن اختلاف الرأي قد استولد شيئاً من التحدي، خصوصاً أننا كنا، أساساً، في الموقع الفكري السياسي ذاته مع فارق وحيد: أنه كان مناضلاً حزبياً، في صدر شبابه، وكنت نصيراً، وأن التزامه السياسي قد أوصله إلى النيابة ثم إلى الوزارة، في حين لم أحصد من مناصرتي للتيار القومي العربي الذي افترضته طريق المستقبل إلا الخصومات وبعض الانتقام، وإن حفظت المكايدة بعض الاحترام للاختيار السياسي.
ومع أنني عرفت على دروب الحياة الكثير من العقائديين الملتزمين والناشطين السياسيين، والمثقفين الكبار ملتهمي المجلدات والمنتجين بغزارة ودونما إسفاف، فإنني أشهد أن أمثال الدكتور أحمد الربعي كانوا قلة معدودة بين من عرفت.
ذلك أن أحمد الربعي كان يجمع إلى الثقافة الطلاقة في عرض أفكاره، وإلى غنى التجربة الميدانية البراعة في التشهير بالخصم ومطاردته حتى… الاستسلام أو الفرار والتصفح بالردود الهزيلة القائمة بالأساس على الشتائم واللعنات!
كان ذكاؤه مشعاً، ومعارفه واسعة، وعلاقاته تتخطى المحليات إلى الأفق العربي الواسع، وتلامس دعوات وحركات ثقافية سياسية في البعيد البعيد.
باختصار، ندر أن عرفت من له من الصداقات والمعارف مثل ما كان لأحمد الربعي في الأمكنة جميعاً: انطلاقاً من الكويت وما يحيط بها من أقطار الجزيرة والخليج، إلى المشرق العربي بدءاً بالعراق، إلى سوريا فإلى فلسطين والأردن، فإلى لبنان الذي كان يرى فيه نموذجاً يمكن الاقتداء به (لهفي على القدوة)… أما في مصر التي كانت داره ومسرى هواه الأول، أيام كان في طليعة القوميين العرب، فإن أصدقاءه بلا حصر، وهم ينتمون إلى مختلف التيارات التي تقلب فيها وبينها.
كذلك فقد كان لأحمد الربعي أنصار ومحازبون (فكرياً على الأقل) وفي بعض أقطار المغرب، وبين النخب من كتابها ومثقفيها والمستنيرين من السياسيين.
لقد عاش أحمد الربعي عصر المد القومي فأعطاه وأخذ منه، على المستوى الإنساني صداقات حميمة وخصومات حادة، ثم عاش فترة الإحباط التي أخذت إلى الانحطاط والتبرؤ من الذات، ولكنه ظل في الحالين متماسكاً في منطقه، قوي الحجة، ذرب اللسان، يغفر له ظرفه انحرافه ويخفف من أثره، إذ يبقى بشخصه وثقافته وسرعة بديهته عصياً على الهزيمة، فكرياً وسياسياً… خصوصاً أن الهزائم المتوالية قد أمدته بفصاحة غير محدودة، وأمدته بسيل من الحجج والبراهين والأدلة على غربتنا عن العصر، وعلى تخلفنا وعجزنا عن التفسير والتبرير: لماذا أصابنا ما أصابنا؟ وهل العيب في قياداتنا السياسية فقط أم في نخبنا الثقافية والحزبية والفكرية والاجتماعية؟ وهل الدين عائق أم أن فهمنا للدين وممارساتنا هي العائق؟
آخر مرة التقينا في إحدى الندوات التي تتبارى كل من أبو ظبي ودبي في إقامتها. وفرحت، حقاً، إذ وجدته قد استعاد صحته تقريباً، وإن ترك المرض بعض بصماته على حركته وأساساً على ذلك الإشعاع الذي كان ينبعث من عينيه. وزادت سعادتي عندما انطلق يناقش بمنتهى الحيوية، وكأنه يكمل حديثاً متصلاً بيننا ولو من موقع المختلف.
إن غياب أحمد الربعي خسارة عربية، تتجاوز الكويت إلى الأقطار العربية جميعاً.. والحزن على هذا الكاتب المفكر المثقف المجادل المحاور الأستاذ الجامعي المناضل المستقيل من نضاله معلم جيل أو أكثر من الكويتيين.
إنه زمن الخسارة.
والعزاء في ما تركه أحمد الربعي من كتب ومحاضرات ومقالات وصداقات وذكريات حميمة حتى في نفوس من اختلف معهم بعد اتفاق حتى حدود الفداء، أو من اتفق معهم حتى حدود الخطيئة الأصلية.
عوضنا الله، في الكويت وخارجها، عن أحمد الربعي جيلاً من تلامذته ومحبيه الذين نتمنى أن ينجحوا في أن يأخذوا من بحر ثقافته ليكملوا محاورين بلا خصومة، باحثين عن اليقين من دون ضغينة، ومؤمنين بأمتهم برغم تعاسة الظروف التي فرض عليها أن تعيشها، والتي سرّعت في خسارتنا هذا المفكر الممتاز أحمد الربعي.