بداية، مساء الخير
وبعد التحية، لا بد من الشكر على اتاحة الفرصة امامي للحـديث عن الصحافة “بين مهنة الاعلام والابداع ومحاولة القيام بدور الداعية سياسيا”.. ولندخل في الموضوع:
أمضيت في العمل الصحافي أكثر من ثلثي عمري، أي ما يقارب الستين عاماً، معظمها في مجلات سياسية اسبوعية، في ادارة التحرير او كمراسل متجول في البلاد العربية قبل أن أنشئ “السفير” في 26 اذار 1974.
عشت وصحف لبنان، ومعها المجلات فيه، هي عنوان الصحافة العربية، وان لم تكن أعظمها توزيعاً… وكان طبيعياً أن تعكس في بلد حيوي ومتنوع الاطياف ومفتوح للرياح والتأثيرات العربية والدولية، الاوضاع العربية السائدة في الاقطار من حولها، مشرقاً ومغرباً، ومن ثم الصراعات الدائرة فيها ومن حولها.
وبالتالي فقد كان طبيعيا أن تعكس هذه الصحافة الصراعات متعددة العنوان في المنطقة العربية، خصوصاً وان صحف البلاد العربية، اجمالاً، كانت تعكس رأي الحاكم، لا فرق بين أن يكون “بطلاً قومياً” أو “دكتاتوراً”.
كذلك، كان طبيعياً أن نفيد في عملنا المهني، من الصحافة الاجنبية والاذاعات الاجنبية لمحاولة تبين الصحيح من الاخبار المروجة بقصد لطمس الحقيقة..
على أن الصحافة في الوطن العربي عموماً، وفي لبنان على وجه الخصوص، كان لا بد أن تتأثر سياسياً، وبهذا القدر او ذاك، بالمبادئ السياسية المطروحة والمواقف المتداولة، خصوصاً وان بينها من لها تأثيرها الشعبي وبينها من له طابع فكري يفرض احترامه حتى على المُعارض.
من هنا أن بعض الصحف قد قاربت بعض الجهات السياسية حتى صارت في موقع الناطق باسمها، وتحزبت لها حتى على حساب الحق والحقيقة، وبهذا فقدت شرط الموضوعية.
بالمقابل فان الصحف الاجنبية عموما، مع استثناءات محدودة، قد اتخذت مواقف غير عادلة، او غير موضوعية، من قضايا النضال العربي المشروع لتحرير الارادة ومن ثم تحرير الارض المحتلة… ومع أن الانظمة العربية بعامة لم تكن نموذجاً للديمقراطية الا أن القضايا القومية بعنوان فلسطين والتحرر من الاستعمار الغربي، كانت محقة لكن الاعلام الغربي، بعامة، ساند دوله، وقلما تعامل بعدالة مع فلسطين وحق شعبها فيها، ومن قبل مع الجزائر وثورتها ضد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، وصولاً إلى العدوان الثلاثي على مصر، انتهاء بالمشروع الاسرائيلي لتحويل فلسطين إلى دولة يهود العالم على حساب شعبها الذي كان شعبها على امتداد التاريخ المعروف.
الحقيقة التي لا مجال لإخفائها ان الصحافة المكتوبة في لبنان تعيش منذ بعض الوقت، ظروفاً مأساوية، بل هي تتعرض لخطر يتهدد وجودها ذاته، في ظل العاصفة السياسية التي تجتاح وطننا الصغير فتهدد كيانه السياسي ووحدة شعبه، وتكاد تدمر اقتصادياته وتعكس نفسها كارثة على وضعه الاجتماعي.
ومعلوم ان الصحافة المكتوبة تواجه تحديات جدية في مختلف انحاء العالم، في ظل ثورة الاتصالات وتزايد الاعتماد على وسائط إعلامية أسرع وصولا وأقل كلفة، أولها الانترنيت تليها الفضائيات والهواتف المربوطة بالشبكات الإخبارية وغيرها.
ان هذه الثورة قد انعكست على وسائط الدعاية والإعلان وأساليب الترويج والعلاقات العامة، فغرفت الكثير من حصة الصحافة المكتوبة، ولم تبق لها إلا نسبة تكاد لا تتعدى الثلث من مجمل موازناتها، بمعيار لبنان.
لا ينفع التمويه في إخفاء حقيقة الظروف القاسية التي تعيشها الصحافة المكتوبة في لبنان، وهي بأكثريتها الساحقة مؤسسات فردية يقع عبء تأمين التمويل واستمراره على عاتق أصحابها.
كذلك لا ينفع طمس الواقع المفجع المتمثل في تناقص أعداد قراء الصحف في لبنان.
إن الصحافة اللبنانية في محنة قاسية:
نفقاتها الطبيعية والاستثنائية في تعاظم، ومداخيلها الطبيعية الشرعية من البيع والاشتراك والإعلان في تناقص، او أنها في أحسن الحالات جامدة عند مستوى معين من العجز الذي يتم التحايل على سده بوسائط وأساليب تمس باستقلاليتها وتؤثر بالسلب على دورها كمصدر نزيه للأخبار والمعلومات، بمعزل عن العواطف والولاءات، وبتجاوز للمخاطر الجماعية والمخاوف الشخصية التي تعكس نفسها على الأداء المهني.
******
من واقع تجربتي الشخصية في “السفير” يمكن إيراد بعض الوقائع التي قد تكون مفيدة:
كانت الصحافة اللبنانية حتى انفجار الحرب الأهلية في أواسط السبعينات صحافة العرب جنباً الى جنب مع الصحافة المصرية. لم تعد اليوم كذلك. انتقل المركز مباشرة او بالواسطة الى نواح أخرى، وصار الصحافيون اللبنانيون هم ركيزة أساسية في انطلاق الصحف العربية وفي نجاحها، بينما تراجعت الصحافة اللبنانية فغرقت في محلية ضيقة كادت تذهب بدورها الريادي.
ان الصحافة مساحة للنقاش، فإذا كنت أسير مكتبك أو أسير المخاطر في بلدك، تخاف ان تتحرك فيه بحرية، وتخاف ان تتركه فلا تقدر على العودة اليه، ويخاف منك المسؤول العربي فيعتذر عن لقائك منعاً للحرج، وتتجنب مساءلته إذا لقيته حتى لا تتسبب في أزمة سياسية إضافية. هو ينظر إليك كأنك تحمل خطر العدوى بمرض خبيث، في حين قد تنظر اليه بأنه قد رماك بدائه وانسل.. فكيف يكون حوار بين مستريبين أحدهما بالأخر، وهي استرابة تمنع المصارحة او تجعلها مواجهة شخصية لا تفيد الا في استعداء دولة اخرى على بلدك المنهك بالخصومات!
كانت بيروت مركزاً للصراع السياسي بين توجهات مختلفة تقودها أو تعبر عنها أنظمة مختلفة في منطلقاتها الفكرية وفي منهجها الاقتصادي الاجتماعي… وكان الهامش الديموقراطي لنظامها الذي يرتكز على التعددية وقبول الكل بالكل والتباهي بالتعدد، فسيحاً يتسع لآراء الداخل والخارج معاً. وقد أفادت الصحافة اللبنانية في أواسط الخمسينات وفي الستينات بشكل خاص من هذا الصراع السياسي بين أنظمة عربية متخاصمة في توجهاتها العقائدية، إذ كانت بين منابره الأهم والأخطر، وبالتالي فقد يسرت لها هذه المكانة ان تحصل على فرصة طيبة لزيادة مساحة انتشارها وكذلك لزيادة مداخيلها الإعلانية.
أما اليوم فإن لكل بلد عربي صحافته ووسائل اعلامه، وكلها أعظم غنى وأكثر تطورا في وسائط الانتاج وتقنياته من الصحافة اللبنانية، وخصوصا ان أسباب التمويل متيسرة هناك، متعذرة هنا.
لم تعد الصحافة اللبنانية صحافة العرب،
وتسابقت الصحف العربية القديمة او المستحدثة سواء في المهاجر او في عواصم لم تكن تعرف الصحافة على استقطاب الصحافيين اللبنانيين الأكفاء الهاربين من حروب بلدهم الصغير…
صارت الصحف اللبنانية بين الأفقر من الصحف العربية، سواء بالدخل الإعلاني أم بعدد القراء، خصوصا بعدما انحصرت في سوقها المحلي.
بينما استمر الصحافيون اللبنانيون بين الأشهر او المرغوبين أكثر للعمل لدى غيرهم من أصحاب المشاريع الصحافية في الوطن العربي او في المغتربات لمخاطبة الداخل طالما تعذرت مخاطبته من داخله.
ومع ان أعداد قراء الصحف اللبنانية عموماً في تناقص، فإن أعداد من يقرأونها على الانترنيت في تعاظم لافت… لكن هذا التعاظم يأتي بالسمعة الطيبة ولا يعود على الصحيفة بدخل يذكر.
******
بين الأسباب العملية لأزمة الاستقلال الاقتصادي للصحافة في لبنان ان البورجوازية اللبنانية تتشكل بغالبيتها من تجار وملاكين او وسطاء تجاريين، حتى الكبار من أهل السياسة كانوا في الأصل من كبار ملاك الأراضي او من أهل التجارة او وكلاء الفبارك وشركات الإنتاج الكبرى في الغرب أساسا ثم الشرق الذي صار غرباً.
ليس لبنان بلداً صناعياً ولا تسود فيه قيم المجتمع الصناعي وأعرافه…
ورأس المال في معظم الحالات هو رأس مال فردي او عائلي ناتج عن الإرث او الجهد الفردي في اعمال الوساطة والوكالة التجارية، وليس نتيجة تراكم إنتاج صناعي كثيف هو بطبيعته جماعي وموجه الى الجمهور الواسع،
ولقد ضجت العواصم العربية بأخبار أزمة الوجود التي تعيشها الصحافة في لبنان، التي وإن اتخذت من “السفير” عنواناً لها، إلا أنها لا تستثني سائر الصحف الخاصة، أي غير الحكومية، التي تعاني مخاطر الاختناق في ظل تراجع الدخل الإعلاني وانخفاض التوزيع لأسباب متعددة، يختلط فيها “السياسي” بـ”التجاري”، مع المنافسة غير المتكافئة مع وسائل التواصل الاجتماعي.
وهذه مأساة دار الصياد التي أغلقت ابوابها تشهد على ذلك، مع انها كانت تصدر مجلات ناجحة وجريدة يومية ذات تاريخ، فضلاً عن مطبوعات أخرى تدر ربحاً صافياً لارتباطها بصناعات لا تبور.
ومعروف ان “النهار” تعيش هي الأخرى، وضعاً صعباً لا يُخفَى على أحد.
ولقد ربط كثيرون بين رحيل صحافي القرن محمد حسنين هيكل وبين شحوب دور الصحافة العربية، ربما لمكانته الاستثنائية كأستاذ كبير لعب دور المجدد والمحدث في المؤسسات الإعلامية، كما في أساليب الكتابة واستدراج كبار الأدباء والمثقفين إلى أفيائها.
ثمة إجماع على أن الصحافة اللبنانية، بدءاً من الستينيات من القرن الماضي، قد تقدمت ـ مهنياً وسياسياً ـ لتتصدر صحافة العرب، مع تميز عن الصحافة المصرية بأنها ليست مملوكة من الدولة أو عبر “الاتحاد الاشتراكي” أو من ورثه من المؤسسات الحكومية في مصر.
وفي حين تّم تأميم الصحافة في كل من مصر وسوريا والعراق وليبيا، لتتحول جميعاً إلى جهاز إعلامي حكومي، ظلت الصحف في لبنان مؤسسات خاصة، وإن تحول بعضها إلى شركات خاصة. أما في السعودية وسائر أقطار الخليج، فالصحف حكومية التوجه والالتزام، كائنا من كان المالك. في أي حال، فإن النذر توحي بأن الصحف في لبنان على وشك مغادرة الساحة، لا سيما وقد انقلب الصراع السياسي بين الأنظمة العربية إلى حروب بالسلاح، وكان لتلك الأنظمة أو الأهم منها مساهمات في “دعم” مؤسسات صحافية معينة لتواجه مؤسسات أخرى تساعدها أنظمة مخاصمة:
وقد أنشأ الصراع بين الأنظمة العربية (وهو دائم، ولله الحمد..) عدداً من الصحف في بيروت، كما دعم وعزز قدرات صحف أخرى، خصوصاً وأن مساحة «الحرية» التي يتيحها النظام اللبناني مكنت بيروت من أن تتحول إلى ساحة صراع سياسي ـ إعلامي بين الأنظمة المتصارعة، فضلاً عن كونها ساحة صراع مفتوح في الداخل بين القوى السياسية المحلية على اختلاف توجهاتها وارتباطاتها… لا سيما أن لها صلات وارتباطات مع بعض الأنظمة العربية، تغذيها بالاشتراكات «التشجيعية» والإعلانات، وتساعدها على إصدار أعداد خاصة (إعلانية)، وكل هذا دعم سياسي في الأصل.
بديهي أن الدول الغنية (النفطية) هي التي كانت وراء هذه الهجرة المنظمة لبعض الصحف والمجلات التي كانت تصدر في بيروت، وانتقلت بأسمائها ذاتها التي لها موقعها في تاريخ الصحافة العربية عموماً، وليس اللبنانية فحسب، إلى الغرب.
*****
بالانتقال إلى الوضع الراهن، يمكن تسجيل بعض الملاحظات المهمة قبل الدخول في التفاصيل:
أولاً ـ لقد اندثر الصراع السياسي بالمبادئ والأفكار، والمصالح القومية والوطنية، بين الأنظمة القائمة حالياً في معظم أرجاء الوطن العربي، بل يمكن القول، من دون خشية من الانزلاق إلى الأحكام المطلقة، إن «السياسة» في الوطن العربي قد اندثرت أو تكاد تندثر.
لقد اختفت الأحزاب وسائر أشكال التنظيم السياسي في المشرق كما في المغرب، ولحقت بها النقابات والاتحادات المهنية، بدءاً بالعمال وانتهاء بالمنظمات الطلابية.
نعني على وجه الخصوص: سوريا والعراق، ومعهما أو قبلهما مصر والجزائر وتونس، وصولاً إلى لبنان الذي كان «الشارع» فيه يعبر ـ مباشرة أو بالواسطة ـ عن الحراك الشعبي العربي بتنظيماته وأحزابه السياسية، لا سيما منها حاملة الشعارات القومية: «البعث» و«حركة القوميين العرب» والأحزاب الشيوعية، فضلاً عن التنظيمات الفلسطينية.
وإذا كانت الانتفاضات الشعبية التي أسقطت عليها تسمية «الربيع العربي» قد ملأت الميادين بالهتاف للثورة كطريق اجباري للتغيير وإخراج الشارع العربي من حال الموات التي فرضتها عليه الأنظمة القمعية واستطالت دهراً، فان هذه الانتفاضات الرائعة كانت بلا «رأس» وبلا «حزب» أو «تنظيم» قائد، بل بلا قيادة من أي نوع، وإن هي جمعت ملايين الغاضبين والممتلئين بالعزم والإرادة على التغيير. وهكذا أمكن لـ”النظام العربي” أن يواجهها، وأن يخادعها ويتحايل عليها بأساليبه الماكرة وقواه الظاهرة والمخبوءة، وتكاتف مختلف الأنظمة الحاكمة (جمهورية وملكية وبين بين) على تشتيت الجموع الغاضبة.
“أمر اليوم” الذي تحاول تنفيذه الأنظمة المذهبة: التغيير ممنوع! حتى لو أدى تنفيذ هذا الأمر إلى إغراق البلاد العربية، التي انتفضت جماهيرها منذرة بالثورة، في مستنقع من الحروب الأهلية، غالباً بشعار طائفي أو بمطالب مذهبية أو حتى عرقية.
ولتنفيذ هذا الأمر بنجاح، لا بد من تغييب بيروت، بميادينها وحيوية شعبها الذي عاش أنماطا من حرية الرأي والحركة قد لا تكون مثالية ولكنها «معدية»، والأهم: بأجهزة الإعلام فيها، مكتوباً ومرئياً.
هكذا تغرق أقطار عربية بدماء أهلها، وتغرق عموم المنطقة العربية بالصمت، فتغيب الأصوات التي تعبر عن شوق الإنسان العربي إلى الحرية والتقدم والكفاية والعدل.
وقد لا تكون الصحافة اللبنانية مؤهلة للعب دور حامي الثورات، ولكنها كانت، بفوضاها وتعدد منابرها، تعبر عن مطلب بل عن حق المعرفة بما يجري في حاضرنا وما يدبر لمستقبلنا.
لهذا تعيش الصحافة في لبنان في خضم معركة الدفاع عن الوجود، باعتبارها الشاهد العربي الأخير على ما يدبر لهذه الأمة المجيدة.
أقول هذه الكلمات التي تشابه النعي، واستغفر الله لي ولكم.. أيها الأخوة ممن يبحثون عن الثقافة وعن المعرفة وعما وراء الخبر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
محاضرة القيت في جامعة الكبار ـ الجامعة الاميركية في بيروت خلال ندوة بعنوان: “الصحافة” بين الاعلام والابلاغ ومحاولة القيام بدور الداعية سياسياً، الاربعاء 17 تشرين الاول 2018.