هل انتهى زمن الثورات الشعبية التي تندفع اليها الجماهير الغاضبة من الاستبداد، مدنيا ـ ملكياً ـ اماراتياً، او عسكرياً، لخلع نظام الرجل الواحد (واسرته)، وفتح الطريق امام الديمقراطية، أي حكم الشعب بالشعب، وفتح الابواب والنوافذ المغلقة لكي يتنفس الناس هواء الحرية، ويستعيدوا القرار في شؤون وطنهم وأهله؟
هل قُضي الأمر، وشطب دور الشعب في التغيير بعدما سدَّت الدبابات هذا الطريق وهيمنت “أجهزة المخابرات” على العقول والأفكار وساد الخوف من الكلام وصار الناس يخاطبون بعضهم البعض همساً او بالإشارة خوفاً من “العسس” والجدران التي لها آذان؟
إن الشعب العربي في مختلف اقطاره طامح إلى التغيير نتيجة استبعاده عن دائرة القرار، وممارسة السلطة قراراتها العشوائية من غير استشارته في ما يمس اسباب عيشه وحقه في المستقبل الافضل.
لكأن التغيير “جريمة” في نظر الانظمة القائمة، وهي تقاومه بكل ما ملكت ايمانها: بالقمع، توقيفاً وسجناً، بمحاكمة او من دونها، بالاغتيال في كمائن محكمة، بتشويه السمعة عبر بث الشائعات الخبيثة التي تمسه في شرفه وامانته واخلاصه لوطنه وتحرمه من حقوقه في دولته وعليها…
لكن الشعوب حية، وهي تقاوم القمع وتنهض وتواصل مسيرتها من اجل التغيير.
لندخل في الموضوع، مباشرة:
منذ سبعة أشهر او يزيد والشعب الجزائري “مرابط” في شوارع عاصمته وميادين المدن الكبرى، ومطلبه محدد: التغيير، بدءاً برأس السلطة، وصولاً إلى “تحرير السلطة” من حكم الحزب الواحد، أي جبهة التحرير الوطني الجزائرية التي شاخت وتشققت وتبعثرت كادراتها… وبالمقابل فان الاحزاب الوليدة لم تكتسب من القوة وشرعية الوجود ما يمكنها من فرض ارادتها.
وهكذا يبقى الجيش، برصيده التاريخي بوصفه وليد جبهة التحرير، صاحب الإمرة وبالتالي صاحب القرار في شؤون السلطة وقرارتها عموماً.
..ولقد قام هذا الجيش بأول انقلاب على الشرعية بعد ثلاث سنوات فقط من انتخاب المناضل احمد بن بللا الذي اختطفه الاحتلال الفرنسي مع اربعة من رفاقه القادة وهم في الجو، بعدما كانوا في زيارة للقاء الملك المغربي محمد الخامس في الرباط.. وهكذا تولى العقيد هواري بومدين زمام السلطة حتى عجز ـ بالمرض ـ عن اداء هذا الدور بعد 12 سنة طويلة، فخلد إلى الراحة حتى توفاه الله، واستمر الجيش حاكماً بواجهة مدنية آخر رموزها عبد العزيز بوتفليفة.
وها هو شعب الجزائر في الشارع منذ اكثر من ستة اشهر، يحاول استعادة قراره في شؤون بلاده، بينما قيادة الجيش تماطل وتناور وتماحك وترجئ قرارها بشأن انهاء المرحلة الانتقالية والدعوة إلى انتخابات عامة ينتج عنها مجلس نيابي وحكومة جديدة ورئيس جديد لجمهورية المليون شهيد..
أما في السودان فقد خضع الجيش بعد مساومات، ومداخلات عربية حثيثة لحرف الانتفاضة الشعبية عن مسارها، ووافق على قيام حكومة اتحاد وطني تشكلها قوى الانتفاضة، محتفظاً بموقعه في القيادة بالشراكة مع الثوار، لفترة انتقالية محددة ومحدودة، تمهيداً لإجراء انتخابات نيابية، تُعيد البلاد إلى اوضاعها الطبيعية.
وتشارك الاحزاب السودانية جميعاً في هذه الانتفاضة السلمية الرائعة التي امضت جماهيرها أكثر من خمسة شهور في الشارع، حتى سلم الجيش بأن تشكل حكومة مدنية، وان تمثل القوى في مجلس قيادة الثورة إلى جانب العسكريين حتى تصبح البلاد جاهزة لإجراء انتخابات نيابية.
ولقد تعرضت القيادة العسكرية لضغوط واغراءات عديدة من جهات عربية نافذة، واغدقت عليها دول النفط والغاز الوعود بمساعدات تتجاوز أي تقدير مقابل أن تستبعد الاحزاب، وان تحكم وحدها “ولها كل الدعم”.
لكن الشارع الذي كانت تملأه التظاهرات الشعبية على مدار الساعة واجه هذه العروض بحدة، معتبراً انها محاولة “لشراء الثورة” ودماء “المجاهدين” وحرف المسار في اتجاه قيام حكم عسكري دكتاتوري بواجهة براقة لا تحمل ملامح الرئيس المخلوع.. بل هي مموهة بوجوه ورثته!
..وفي حين تتقدم القوات العسكرية السورية، بدعم روسي جوي مؤثر، من ادلب في شمالي البلاد، “لتطهر” هذه المنطقة من جيوب المعارضة التي تدعمها وتحميها تركيا، تفاجئ واشنطن دمشق بالإعلان عن قاعدة عسكرية اميركية في منطقة دير الزور، شرقي البلاد، في استفزاز واضح للسلطات السورية، في حين تعلن فرنسا انها تنوي ابقاء بعثة عسكرية في الشمال السوري…
ولم يتأخر العدو الاسرائيلي عن انتهاز فرصة انشغال الجيش السوري بمطاردة “العصابات المسلحة” في الشمال، فشن سلسلة من الغارات الجوية على بعض المطارات والقواعد العسكرية التي ادعى انها “ايرانية”، بالقرب من دمشق.
ثم أن العدو سرعان ما وسع دائرة الاشتباك فارسل طائرتين مسيرتين إلى الضاحية الجنوبية من بيروت، حيث مراكز القيادة لـ”حزب الله”..
واسقطت الطائرتان المسيرتان ببساطة، وكشف “الخبراء” عن أجهزتها، واستنفر الجيش اللبناني قواته على الحدود مع فلسطين المحتلة، ووجه الامين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله للعدو الاسرائيلي بأن “مجاهدي الحزب” سيردون حيث يختارون من مواقع العدو في الأرض الفلسطينية المحتلة.
وسجل اللبنانيون، وسائر العرب، هذه الهزيمة الجديدة للعدو، بينما هم يستعدون لجولات ميداينة أخرى، خصوصاً وقد وجه رئيس حكومته نتنياهو تهديداً إلى لبنان، مبرراً اسقاط الطائرات المسيَّرة بانه “نتيجة خلل فني”!
على أن الاخبار السيئة تأتينا، هذه الأيام، من اليمن … السعيد!
فمنذ سنوات تقاتل السعودية في اليمن، من دون هدف واضح، وهذه حرب عبثية مشهودة لن تنتهي بنصر لأي طرف، بل الأرجح أن تنتهي بانسحاب السعودية من ميدانها مقابل هدنة طويلة وتدمير مريع لأول حضارة في التاريخ الإنساني.
وأما دخول “الامارات” الحرب، بالشراكة مع السعودية في البداية، ثم لوحدها في محاولة لاحتلال جنوب اليمن حيث اقيمت ذات يوم “جمهورية ديمقراطية اشتراكية” بحماية الاتحاد السوفياتي ثم سرعان ما سقطت هذه “الجمهورية” التي لم يكن لها وجود في أي يوم، وعاد اليمنيون جميعاً إلى ّدولتهم “الشرعية” بقيادة الرئيس علي عبدالله صالح، الذي خُلع قبل سنوات، ثم قُتل بينما هو هارب من صنعاء.
وها هي الاضطرابات تعم جنوب اليمن، وتحاول “الامارات” عبثاً تهدئة الغاضبين خصوصاً وانها قد أقامت قاعدتين عسكريتين الأولى في عدن والثانية في جزيرة سوقطره، في عرض المحيط، متصرفة وكأنها دولة عظمى..
ونتيجة لهذه الاضطرابات لم تجد “الامارات” من تطلب منه النجدة الا المملكة شريكتها في الحرب على اليمن… السعيد!
..وأما ليبيا الي اندثرت دولتها، وتتناهب ثروتها الهائلة من النفط والغاز “الدول” القادرة، وعصابات السوق السوداء، فتنتظر فرجاً لا يجيء.. واخوانها العرب مشغولون عنها، كما عن المقدسة فلسطين، يخوضون حروبهم العبثية ويدمرون معالم الحضارة، التي يدفعون ثمنها غالياً.. بينما يغفلون عن عدوهم القومي (اسرائيل) الذي احتل بلادهم وارادتهم انطلاقاً من فلسطين، مروراً بلبنان وسوريا وصولاً إلى العراق، كما تشهد آخر غاراته الجوية.
مع ذلك، فان الامة ولادة.. وبشائر التغيير تطل من السودان كما الجزائر..
ولنا كل الثقة أن الشعبين المناضلين لهاتين الدولتين سيكونان طليعة التغيير في الوطن العربي الكبير..
“إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”..
تنشر بالتزامن مع جريدة “القدس” الفلسطينية