ليس صعباً ان يدرك المرء أن العسكر هم القوة الأقوى في أي نظام. المشكلة حين يدرك هؤلاء ان السياسة أضعف منهم، أو أن وجودهم في الساحة العامة يفرض تدخلهم أو حتى وجودهم. يكون طبيعياً ان يتدخل العسكر في السياسة، ويكون طبيعياً أكثر ان يهيمنوا على السياسة. هيمنتهم على السياسة الغاء لها. لا يعرف العسكر الحوار الا عن طريق الأمر. اقتصاد كل بلد، ديمقراطي أو غير ديمقراطي، يتحول الى اقتصاد الامر عندما تندلع الحرب. حينها يصير للنصر العسكري أولوية على كل شيء آخر، وللعسكر أولوية على كل فئة اخرى من المجتمع.
ليس هناك مجتمعات عسكرية او غير عسكرية. هناك مجتمعات تضعف فيها السياسة الى درجة ان تصير سيطرة العسكر أمراً محتوماً. لا يجرؤ العسكر على استلام السلطة ان لم تضعف السياسة؛ تضعف السياسة عندما ينقطع الحوار بين اطرافها، وعندما يصبح الحوار مجرد صراع على السلطة، وعندما يتحول المجتمع الى رعايا لأركان السلطة، وعندما يحتاج كل طرف في السلطة الى تدخل العسكر لتثبيت أرجحية وجهة نظر على أخرى. ولا يسيطر العسكر في الداخل الا عندما يستعين اطرافهم بقوى خارجية لدعم هذا الطرف أو ذاك.
سيطرة العسكر في مجتمع ما تعني ضعف القوى الاجتماعية التي تستطيع ان تفرض هيبتها السياسية؛ عندما تضعف السياسة يسيطر العسكر. وعندما يسيطر العسكر سيفسح المجال لتدخل القوى الخارجية. لا يعرف العسكر الحوار الا مع العسكر من أي بلد كان وفي أي بلد كان. كثيراً ما استخدمت الانقلابات العسكرية لدعم شعار الاستقلال او السيادة، ودائماً ما يكون الامر غير ذلك.
عندما يسيطر العسكر على السلطة يدافعون عن وجودهم فيها، وغالباً ما يتطلب الامر الاستعانة بأطراف خارجية. عندما يخضع العسكر للسياسة فإنهم يدافعون عن الدولة أو ما يسمى الوطن. وطنية العسكر مرهونة بخضوعهم للسلطة السياسية. في الاساس لا يتمتع العسكر بمؤهلات تقنية او بيروقراطية لإدارة شؤون الدولة أكثر من غيرهم. بالعكس هم أقل تأهلا لذلك. لا شيء يبرر سيطرة العسكر على السلطة الا ضعف السياسة.
تربية العسكر هي في الاساس قائمة على الامر والنهي، وعلى تلقي الاوامر وتنفيذها؛ والتنفيذ لا يتطلب التساؤل او التشكيك؛ لا يتطلب الحوار والمناقضة، ومعارضة الرأي بالرأي، والرأي بالسؤال، والأمر بالرفض. ليس في تربية العسكر حوار او تسويات. الواجب الاخلاقي في التفكير وتمحيص الاوامر ومحاولة معارضتها؛ كل ذلك ممنوع.
الاخلاق تدور حول الواجب. لكنه واجب آخر ينبع من الضمير. تربية العسكر تدور حول الواجب، لكنه واجب يدور حول الطاعة، طاعة من ينسب اليه الامر. يضطر العسكر الى تربية غير تربية المجتمع، تربية تخلو من الحوار والنقاش والتساؤل. هناك اوامر تطاع وحسب. ينفصلون عن المجتمع، يعيشون في ثكنات خاصة بهم، يتدربون على القتال من أجل الدفاع عن الوطن وأمنه. المجتمع متنوع متعدد، دائماً يواجه خطر الغزو من الخارج والانقسام في الداخل؛ العسكر يقومون بالواجب ضد ذلك. سرعان ما يساورهم شعور بالفضل على المجتمع وعلى الدولة، سلامة الوطن بين ايديهم. لا بدّ وان يداخلهم شعور بالتعالي، مهامهم تولد بداخلهم شعوراً بالنبل. النبلاء يقومون بالاعمال النبيلة. نبلهم يتفوق على ما في المجتمع من أوساخ الفساد والميل الى الاحتيال والخيانة. ليس في أمرهم (العسكر) سياسة. السياسة احتيال وكذب وتدليس. هم خارج المجتمع لما فيه خير المجتمع. اذاً، هم يجسدون الخير في مواجهة الشرور التي تثقل كاهل المجتمع. تنشأ ثنائية الخير والشر بينهم وبين المجتمع، بسبب ما يمثلون، بالاحرى ما يعتقدون انهم يمثلون، يتوالد لديهم شعور بالتعالي على المجتمع؛ التسامي على الآخرين. تتقلص رؤيتهم للمجتمع، تتقلص الى الثنائية. طبيعة تربيتهم تعوّدهم على رفض التعددية واعتبارها تجسيداً للفساد. الفساد ليس فساد النظام بل هو فساد المجتمع.
يتحولون من جهاز تابع للسياسة، خاضع للسلطة السياسية، من جهاز يقدم خدمة للمجتمع الى آمر له. أساليب الامر التي تعودوا عليها في الثكنات يمارسونها على المجتمع. يصيرون سادة له. عندما تضعف السياسة تصير سيادتهم مطلباً. عندها تسهل الانقلابات العسكرية. ينفر الناس من الاعيب السياسة، يطلبون حزم العسكر.
الدولة المدنية هي دولة المجتمع المدني، المجتمع الذي صارت فيه الدولة منغرزة في ضمير المواطن الفرد. الدولة جزء من الفرد المواطن، وهذا جزء منها. هي دولة مجتمع يعتقد مواطنوه انهم يستطيعون العيش سوية، وانهم يستطيعون سنّ القوانين ووضع الدساتير من أجل ذلك. هي دولة مجتمع قادر واثق بنفسه. هو ليس رعية لجهاز عسكري او من يعتقدون انهم وحدهم الذين ينطقون باسم الله. لا فرق كثيراً بين عشوائية العسكر وارادويتهم وبين انتقائية شعار تطبيق الشريعة. كلاهما يعتقد ان مصدر القانون كيان خارجي، يخرج من المجتمع ويستولي عليه. يمارس السلطة على المجتمع من دون السماح لمواطنيه بالاختيار وأخذ القرار.
من الطبيعي انه عندما تسن القوانين سوف يساهم كل مشارك فيها على اساس وعيه، بالاحرى خلفيته الثقافية وما تراكم لديه من معرفة ورؤى حول ما يجب ان يكون. مهما كان التقليد للغرب، فإن المقلدين لن يتخلوا، ولا يستطيعون التخلي عما فطروا عليه. تتكون الفطرة بالتربية في البيت والمدرسة. والانسان لا يكون الا حسب ما تربى عليه، نسبياً على الاقل.
دولة المجتمع المدني هي الدولة التي تعالج شؤون الدنيا وتترك شؤون الله للمؤمنين. هي الدولة العلمانية حيث يعتقد الناس ان مصيرهم يتقرر على الارض لا في السماء. لا معنى غير ذلك لقول الله ان الحساب في الآخرة على اعمال أُديت على هذه الارض. لا معنى للقول ان الحساب على هذه الارض، والا ما كان هناك لزوم للسماء.
الدولة المدنية هي التي تدير شؤون المجتمع، وأهم شؤون المجتمع هو ادارة الشأن الاقتصادي. جوهر السياسة هو ادارة الاقتصاد. هي دولة السياسة، دولة الاقتصاد السياسي. هو الدولة التي تحررت من الدين السياسي وعشوائية الشريعة والتي تحررت من سيطرة العسكر وعشوائية الامر والسيطرة العسكرية. هي المجتمع حيث يحكم المواطن وينبع التشريع من ضميره. هي المجتمع الذي يخرج من سيطرة رجال الدين ومن سيطرة رجال العسكر، فتتحقق الدولة المدنية وهي بطبيعتها علمانية. ليست الدولة المدنية الا علمانية. تعني العلمانية قبل كل شيء انك تستطيع ان تنتمي الى أي دين أو مذهب يكون خلفيتك السياسية لكنه لا يكون حجتك السياسية.
متى تحررت الدولة المدنية من الدين السياسي والعسكر تترتب عليها مهمات الحوار مع المجتمع من أجل الانتاج والعمل والسعي لبناء مجتمع متماسك. مع تماسك المجتمع تتماسك الدولة، تحتاج الى السياسة وحدها من دون المخابرات ووعاظ الدين والسلاطين. النصر الحقيقي تحققه الدولة المدنية لا بالعلمانية وحدها بل بالسعي والانتاج، انتاج مجتمع متماسك، آليته الداخلية السياسية والحوار، وآليته الخارجية الدبلوماسية وعسكر يأتمرون بالسلطة المدنية.
تحتل مسألة النمو الاقتصادي مكاناً مميزاً في سياسة الدولة المدنية؛ هي ليست التلقين وتحفيظ الشعارات، بل هي العمل والسعي والانتاج. يحقق الانسان نفسه بالعمل والتفكير. لا ينفصل التفكير عن العمل مهما كان تقسيم العمل بين الاثنين.
بالعمل والانتاج يصنع الانسان حاضره ويقبض على مصيره، يصنع مصيره، يتكون وعيه بحيث لا يخضع للعشوائية (العسكر) وللإملاءات الخارجية (الدين)، الا ما يتناسب مع ضميره. ذلك ان السلبية وحدها لا تكفي. التخلص من سيطرة الدين السياسي وتسلط العسكر أمر سلبي. هذا يجب ان يتواكب مع أمر ايجابي هو العمل والانتاج والتفكير.
ليس صدفة ان الصراع في المنطقة العربية في القرن الاخير دار حول الصراع بين العسكر والدين السياسي، وليس من أجل العمل والانتاج. نرى نتائج ذلك في الحروب الاهلية. وليس سراً ان هاتين القوتين تواطأتا على ذلك.
تنشر بالتزامن مع موقع روسيا الآن