… ولكنني لا أعرف أن أكتب عنكِ، يا التي تشغلين من قلبي صميمه، والتي طالما وجهتِ قلمي وأعطيتني الكلمة التي لا بد من أن أقولها، وشطبت من خاطري الفكرة التي لا تليق، ومسحت عن الورق جملاً رأيت فيها خروجاً على ما عشتِ عمرك تربيننا عليه: الإنسان خطّاء، وليس ما تعرفه هو الحقيقة مطلقة. الآخر يرى الحقيقة عنده، فاسمع له تقترب من العدل أكثر.. أنت يا بني في كلمتك، احرص عليها وانذرها لتكون في خدمة الإنسان، كل إنسان، من تختلف معه قبل من تتفق معه. الحق ليس ملكاً شخصياً لأحد. الحق هو الله. لكل منا فيه نصيب. ليس بين أهلك من هو عدو لك. قد يكون مخطئاً، لكنك قد تكون متجنياً لأنك عرفت نصف الحقيقة فقلته، ونصف الحقيقة نقيضها.
يا بني، إن الإنسان خطاء، وأنت إنسان. والله هو العدل. وأنت لست القاضي، وإياك إياك أن تكون الجلاد. فاشهد بما تعرف، واترك هامشاً للتراجع، لأن غيرك قد يعرف أكثر.
يا بني، إن الحياة الحب. أحبَّ الناسَ، كل الناس. عدوك وحده هو العدو. قتاله واجب، لكن أخاك ليس العدو وإن أخطأ. الحب لأخيك يقويك في وجه عدوك.
يا بني، إن الناس أخوة، وإن اختلفوا في الدين أو في العقيدة. حب الوطن من الإيمان يا بني. أحبب وطنك بناسه. واحبب أهلك لتكون وطنياً. من خالفك الرأي ليس عدوك. تشترك معه في الله وفي الوطن. والكلمة تجرح. أنا أمية، لكنني أفهم قيمة الكلمة. أفهم كتاب الله وإن لم أقرأه، فالله هو الحق والعدل والخير، وهو هو الحب.
… وها أنا أعجز عن الكتابة عنكِ يا التي كنت طريقي إلى الله وإلى الناس وإلى الكلمة السواء. فأنت أرق كلمات الله.
ومع ذلك يحق لي أن أعاتبك: لقد أخلفتِ، لأول مرة، موعدنا معك. كنا نصلك قبيل الغروب، كل سبت، فتستقبليننا بذلك العتاب الرقيق وأنت تتفقدين من تخلف عنه. وقبل مباشرة الاعتذار تبدلين موضوع الحديث لأنك لم تقصدي إحراجنا، بل لأن فائض حنانك كان ينتظر المزيد لينهل منه. في أي حال كنت تجدين السبيل لإحاطة الجميع بهذا الحنان الذي كان يعصمنا فيحمينا.
تسألين وتسألين وتسألين، ونجيب بما تعرفين، لكنك تريدين مزيداً من الاطمئنان: عن فيصل وعائلته، عن عصام وعائلته، عن محمد وعائلته، عن نوال وعائلتها، أما سلوى فكانت هي من يطمئننا عنك، مع ذلك كنت تخبريننا بما لا تريد أن تفصح عنه، ثم تعتذرين اليها بأنك استرسلت في الكلام فكشفت عن بعض أوجاعها.
وكنت تنصحين دوماً بالاعتدال. الله وحده هو الحق المطلق… وكل إنسان خطاء. وخير سلاح لإصلاح الخطأ هو الحب.
في أول موعد تخلفينه، يا حاجة أم طلال، أحسستُ بنفسي عجوزاً. غادرني الطفل الذي كنتُه معكِ. اكتشفت أنني أكبر سناً مما تقول بطاقتي وطاقتي. لكأنك أضفت عمركِ إلى عمري، أو سحبتِ عني خيمة الأمان التي كانت تظللني، فاكتشفت فجأة أنني جد، وأنني لست فصيحاً بما يكفي لأكتب الموت، ولست قوياً لأمسك بناصية الحياة.
كنت أسمعهم يقولون إن الحياة أم، فأبتسم في سري، وأقول إن الحياة أعقد من ذلك بكثير. لكنني عبر ما تعلمته منكِ أدرك الآن صحة تلك المقولة. فالأم هي الضمانة ضد الشيخوخة وضد الغلط، ضد التعصب وضد احتقار كرامة الإنسان، كل إنسان.
ونحن نحمل نعشك لم يكن ثمة جثمان. كنت مجرد هالة من النور، تهديننا إلى الخير، وتتجمع في وسطها القبيلة جميعاً: لعفاف الصدارة، ومن خلفها، هنادي وخليل وكنده، ربيعة وحسين وروى وألما، أحمد ولارا وورد وطلال، علي وهبة… وأولاد الأعمام وأولاد الأخوال وأهل الضيعة ثم أهالي القرى المجاورة، فالقرى البعيدة التي عرفتِ الكثير منها وعرفوك وشاركونا في أمومتك، وثم بيروت التي عشت فيها ردحاً من عمرك وعاشت فيك، ثم دمشق التي رأيتها قليلاً وأحببتها كثيراً، ثم القاهرة التي تعرفينها، ومع ذلك أخذك دورها القيادي الى حبها في الزمن الجميل، والجزائر والمغرب وتونس واليمن والجزيرة العربية، كما الى بلاد أخرى كثيرة أحببتها لأنك تحبين من فيها.
يا حاجة أم طلال: لأول مرة نكتب إليك ولسوف تقرئين… وسنكتشف أنك كنت تدعين أنك أمية لأنك تريدين لنا أن نكون أفضل حالاً، في حين أنك الأفضل حتى في فهم المعنى، بينما نحن نقف على بابه وننتظر أن تعطينا المفتاح.
يا حاجة أم طلال: ستبقين معنا، لأنك في روحنا تسكنين، ومن دونك سنفتقد الأمان، لكننا سنظل نحب الحياة لأنها منحتنا سعادة أن نكون أبناءك. لك الجنة، ولنا طيفك نستظل به حتى لا نفقد حبنا للحياة، والحياة هي الناس كما تعلمنا منك. ولنا كل هؤلاء الأخوة من أبنائك الذين يعدون بالآلاف، بعشرات الآلاف. فشكراً حتى لا نقول وداعاً.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان