سعد الحريري، أين أنت؟
لا جواب بعد. التخمين بلغ حد اللامعقول. حدود اللا تصديق. الأقوال تشي بأنه لغز وفكه مؤجل. كم يوما؟ لا أحد يدري. قد يحضر اليوم او غداً أو… ولكنه لن يكون سعد الحريري الذي نعرفه. هو، ما قبل “الاستقالة ـ الاقالة”، يختلف عما بعدها. فننظر ظهوره بعد التكهنات. في أي حال، ما قبل “البيان السعودي” من مكان ما في المملكة الغاضبة، ليس كما قبله.
لبنان كله يسأل: اين لبنان غداً؟
لا جواب بعد. الطريق الدستوري لن يُفضي إلى حل. والاسباب كثيرة. لبنان بعد “الاستقالة ـ الاقالة” لن يشبه لبنان ما قبله ابداً. شيء جديد حضر إلى لبنان، لا يستطيع أن يتحمله. كانت التسويات صعبة، اما بعد ذلك، فالتسويات شبه مستحيلة، اقله، في المدى المنظور. التعايش المنهك حصل قبل سنة. أنتج التعايش انتخاباً لرئيس للجمهورية، وتأليف حكومة لابأس بها، قياساً على لبنان. تمكنت صيغة التفاهمات تأمين التعايش، السني ـ الشيعي، المسيحي، على مضض. وهذا أفضل من التنابذ.
غدأ، من يجرؤ على التوقع؟ انما، وبرغم الغموض، فان التعايش الايراني ـ السعودي مستحيل. السعودية تريد من لبنان تنفيذ امر “امير ملكي”. على لبنان أن يختار بين أن يكون سعودياً او أن يكون ايرانياً. وفي تاريخ لبنان، منذ تكوينه، لم يستطع أن يتوحد ازاء أي انقسام اقليمي أو دولي. تراثه الاصيل أفضى إلى أن يزدوج، وأن يتثنى. استحال التوحد اللبناني، بين فرنسا ودمشق، قبل الاستقلال، وبين عبد الناصر وايزنهاور، وبين “دمشق العروبة”، والحلف الاسلامي، بين تبني البندقية الفلسطينية وبين طعنها في الصدر والظهر.. الاستعانة بالخارج قانون الطوائف اللبنانية، ولا تحيد عنه ابداً. استعان المسيحيون بفرنسا وأميركا وسوريا ثم اسرائيل. دفع لبنان الثمن باهظاً في البشر والحجر. هذا تقليد لبناني. السنّة كانوا أقرب إلى الحضن العربي، الفلسطيني، الاسلامي. نفيان لا يصنعان وطناً. يستدعيان تسوية وتعايشاً. تلك هي جلجلة لبنان.
هذه المرة، وبصيغة الامر وإلا، على لبنان أن يكون، اما سعودياً وإما ايرانياً. كل ما تبقى هوامش ونوافل. الكهرباء، النفايات، ازمة السير، انتظارات النفط والغاز في البحر، الموازنة، السلطة، الانتخابات، ال… كلها في محطة انتظار الخيار المستحيل. تاريخ لبنان لم يشهد ابداً توحداً. لم يستطع أي فريق أن يأخذ لبنان كله إلى محور. وفي هذه المرة، ليس بمستطاع السّنة أن تأخذ كل لبنان إلى السعودية، وليس في قدرة الشيعة أن تأخذ لبنان كله إلى إيران. والمشكلة أن السعودية تريد كل لبنان، هذه المرة، لا نصفه. والتعايش الايراني السعودي مستحيل.
ما تصر عليه السعودية. بلسان السبهان، لا يستطيعه لبنان. فكيف تتألف حكومة، من دون “حزب الله”، بل، وكيف تتألف حكومة من دون السنّة؟ السنّة اليوم. كتلة واحدة، شعبياً وسياسياً. الا إذا عاد الحريري مهزوماً من السعودية.
إيران لا تفرض أن يكون لبنان ايرانياً، هي مكتفية من نصيبها الشيعي. ولكنه نصيب مربح في لبنان وسوريا والعراق واليمن و… ولا تطلب الا التعايش اللبناني مع بندقية “حزب الله”. التأكيد على الايرانية من جهة والسعودية من جهة ثانية لا تلغي أن لـ”حزب الله” شخصيته المميزة، ولا تعني أن السنّة فاقدين للهوية والاختيار. ولكن الزمن الاقليمي لم يعد يحتمل انصاف الولاءات. اما أن تكن معي، والا فأنت ضدي.
والسعودية عندما تهدد، واللغة لا تعوزها، فإنها قادرة على عقد قران مبرم بين ما تهدد به وما لا تتردد بتنفيذه. بالطبع، لن تخوض “عاصفة حزم”، لكنها قادرة على سيل من العقوبات، تلتقي مع مسلسل العقوبات الاميركية. وعندها، فعلى اعدائي واصدقائي يا رب. ممارسة الحصار الخليجي لا يسقط لبنان، ولكنه يشعره بالزلزال ويتوقع ارتداداته.
قد تذهب السعودية إلى أبعد من ذلك. أبشع ما نتوقعه، أن يصبح لبنان منقسماً بين خطوط تماس امنية. تحريك الشارع ليس لعبة. تعنيف الخطاب السياسي والمذهبي ليس تسلية. محاربة الجمهورية في المحافل العربية، ليس نزهة. هي قادرة على ذلك وأكثر. فالمملكة التي اندفعت بالأموال والعتاد والمواقف في سوريا، وقبلها في العراق وبعدها في اليمن، تؤكد انها قادرة أن تكون “دولة اقليمية عظمى” تنافس الجمهورية الاسلامية الايرانية في كل الجهات المشتعلة. جبهة اضافية لا تسبب لها استنزافاً. هي ذاهبة في حربها ضد إيران، حتى آخر نقطة نفط. وبرغم المكاسب الايرانية في سوريا، فهي لا تزال موجودة إلى جانب الحليف الاميركي في أكثر من منطقة. وهي مصممة على أن يكون الامر لها، ولا ينافسها فيه أحد في الخليج وفي كل مكان تتواجد فيه “الاذرع الايرانية”.
وبرغم كل ذلك، وبعد كل الاصرار، فان “حزب الله” لن يرف له جفن. هو مطمئن إلى قوته، وان كان يرغب بتحاشي أي منزلق أمني في لبنان. ولكن إلى متى؟ لن يتنازل “حزب الله” عن مكاسبه الاقليمية. هو قوة عسكرية وقوة مقاومة لا تقهر، ولن يتراجع عن بقائه كمقاومة لبنانية، إلى أن تحين ساعة التحرير الفلسطينية.
لبنان في عنق الزجاجة، اما يقطع عنقه، او تكسر الزجاجة، وفي الحالتين، يكون لبنان مرشحاً للإقامة في النفق، إلى أن ترسو المنطقة على “سلام الخاسرين”.
سعد الحريري، أين أنت؟
لم يعد هو السؤال الجوهري، برغد فداحته. انما:
لبنان أين أنت والى أين؟
من يجرؤ على الجواب؟