مع اقتراب الذكرى الأولى لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري، وحرصاً على كرامة الشهادة والشهيد، لا بد من وقفة أمام نمط من اللغة التي تتلطى خلف أحزان الفقد والإحساس بالفجيعة لتشيع في البلاد مناخاً رديئاً لا ينفع إلا في إثارة الفتن وتعميق الشرخ بين اللبنانيين.
علينا أن نتذكر أن رفيق الحريري شهيد لبنان كله، بمناطقه كافة وطوائفه كافة، بل انه شهيد العرب الذين خسروا بفقده »رجلهم الدولي« الذي بلغ مكانة عز أن بلغها سواه في صداقاته وعلاقاته بالكبار من الساسة والاقتصاديين في العالم.
وعلينا أن نتذكر أن رفيق الحريري كان واحداً من رجال الوحدة الوطنية، وقد عزز بمسلكه بناءها ووطد أركانها فأخرج من دائرة السفسطة هوية لبنان، أي عروبته، بأبعادها كافة، وبينها ما يتصل بعلاقة التكامل مع سوريا، وبمساندة شعب فلسطين في مطلبه الحق بالعودة إلى وطنه، وبمعاملته خلال استضافته التي طالت أكثر مما قدرنا وقدروا بروح الأخوة والشراكة في القضية.
كذلك فهو قد أظهر دائماً فخره واعتزازه بالمقاومة وحزبها وحكمة قيادتها التي اعتبرها دائماً ضمانة كبرى للوطن وعزته وهويته.
وعلينا أن نتذكر أن رفيق الحريري لم يكن يتجاوز المحرمات حتى في حال الخصومة، بإدراك لطبيعة اللعبة السياسية في لبنان وتحولاتها التي كثيراً ما أخذت منه بعض حلفاء الاضطرار أو ألزمت بعض أصدقائه بإظهار الخصومة طلباً لمقعد في السلطة أو لنصيب من الثروة.
وبرغم كل مشاعر الغضب والرغبة في الثأر والإحساس بمرارة الفقد، فإن مواقف كثيرة غير معقولة وغير مقبولة تطلق باسم »الأغلبية« التي هي في حقيقة أمرها تحالف اضطرار في لحظة سياسية معينة بين قوى سياسية مختلفة في منطلقاتها ومختلفة في استهدافاتها وإن يسّرت لها الجريمة فرصة القفز لأخذ السلطة كاملة أو مجتزأة والاستقواء بها على »خصومها« ممن كانوا »حلفاءها« حتى ساعة الحزن الجليلة ظهيرة 14 شباط 2005.
إن هذا البعض من »الأغلبية« يصر على ارتداء ثياب الحرب، وعلى التحدث بلغة الحرب، مع وعيه بأنه ليس المحارب، وأن غيره سيدفع ثمن حربه التي باتت بلا موضوع.
وخير دليل هو البيان الذي أصدره بعض من جماعة 14 آذار يوم أمس الأول، موجهين قذائفهم العشوائية في كل اتجاه، اتهاماً وإدانة وتجريماً، في مسألة الشغب الذي وقع الأحد الماضي في الأشرفية وأساء إلى لبنان وكثير من مؤسساته ذات الرصيد الشعبي ومؤسساته السياسية وهدفها المعلن لتظاهرتها وهو استنكار الإساءة الدنماركية إلى الرسول العربي ودينه الحنيف.
لقد جلسوا، وهم من أهل الحكم، في موقع المعارضة وأدانوا جماهير واسعة من اللبنانيين، وحاكموا السلطة (سلطتهم؟)، وكادوا يتهمونها بالتواطؤ مع عناصر الشغب الذين قرروا أنهم من »أبناء الملحقات«!
جعلوا من أنفسهم رجال مخابرات ورجال تحقيق ورجال قضاء، فتحروا واتهموا وألقوا القبض وأصدروا الأحكام بالإدانة، ثم طالبوا الحكومة بتنفيذها.
»المجرمون« جاهزون سلفاً: السوريون وحلفاؤهم من الفلسطينيين ثم البدو، وتلك »الفئة الضالة« من اللبنانيين التي تخدم النظام السوري عن وعي أو من دون وعي!
وبرغم محاولة تغليب »السياسي« على »الطائفي« في اللغة المستخدمة، فقد ظل »الطائفي« هو الطاغي، على حساب المعالجة الوطنية لعملية تخريب حلت بحي في بيروت نتيجة فقدان السيطرة على تظاهرة، واندساس بعض عناصر الشغب فيها، والتي تعمّدت على الأرجح أن تفتعل فتنة.
لقد استخدمت الحساسيات بأكثر من طاقتها فانكسرت وارتدّت على مطلقيها.
وعبر مثل هذه الطروحات تحولت »السياسة« في لبنان إلى مضخة للكراهية تسمم المناخ بالاتهامات والافتراءات التي تتجاوز النظام في دمشق إلى العمال السوريين في لبنان، وتتجاوز حكاية السلاح الفلسطيني خارج المخيمات إلى الشعب الفلسطيني في كل مكان، وتتجاوز الأطر والمرجعيات السياسية المحلية والعربية لتتوجه رأساً إلى مجلس الأمن الدولي، وكأنه موظف متفرغ عندها، علماً بأن ليس بيدها »قضية«، وأن ما جرى في بيروت سهل علاجه في بيروت بالمحاسبة والمحاكمة والإدانة، خصوصاً أن اللبنانيين (بمن فيهم من نظم التظاهرة وشارك فيها) وقفوا جميعاً مع هذا المطلب البديهي.
… وحين صدر بيان اللقاء الذي جاء في موعده بين قيادة »حزب الله« وقيادة »التيار الوطني«، توفرت فرصة للمقارنة بين لغتين حول هموم الحاضر والمستقبل، الأولى من داخل السياسة بوصفها أداة لصناعة المستقبل، والأخرى من خارج السياسة وتريد تجميد التاريخ عندما يفيد في استثمار الفواجع والمآسي الوطنية.
والمقارنة شبه مستحيلة: بين مشروع تحالف يطلق دعوة لحفظ الوطن بالتعجيل في بناء دولته على قاعدة من التفاهم الجدي على هويتها وأركان بنائها وطبيعة علاقاتها بالصديق والعدو، وبين تجمع يعيش على الكوارث وإدامة تداعياتها وتضخيم »الحوادث« التي قد يقع مثلها في أي بلد لتصير مبرراً
لإعلان الحرب أو بالأحرى للاستمرار بالحرب بوصفها استثماراً سياسياً مجزياً.
لقد وقع شغب كاد يتحول إلى فتنة، ولا بد من إدانة المشاغبين ومعاقبتهم بأقسى ما ينص عليه القانون، كائنين من كانوا. فالعقاب على الجريمة وليس على الهوية أو على النوايا.
أما سلامة الوطن فتعالج بالحكمة وبالعمل السياسي، وبالسعي إلى تجميع كل قواه السياسية وإشراكها بالمسؤولية على قاعدة برنامج إنقاذ وطني، لا إلى إدانة أعظم هذه القوى شعبية، وأقربها إلى شعاراتها الوهاجة في ممارساتها، ثم التحريض عليها لإحراجها فاستبعادها أو دفعها إلى الخروج.
إن الوطن يحتاج أبناءه جميعاً، وقواه السياسية جميعاً، ولا سيما أصدقها في إعلان برنامجها القاطع في وضوحه وفي استهدافاته.
لقد آن أن تتواضع الأغلبية التي يكاد التطلع إلى السلطة يشرخها إلى »موالاة« و»معارضة«، وأن تخاطب عقول اللبنانيين لا غرائزهم، وأن تتوقف عن استثمار الدم المقدس الذي أريق ظلماً فوفر أساساً متيناً لبناء وطن.
والوطن بأبنائه جميعاً، وليس من حق أي طرف سياسي، و»الغالبية«، ضمناً، أن يعطي شهادات بالوطنية، بل لعل بين قواها المختلفة المقاصد والأهداف من ما تزال »هويته« قيد الدرس.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان