بعد تسعين عاماً من تعليق أصحاب الأقلام والأفكار والآراء المبشّرة بالغد أي بالاستقلال وباستعادة الهوية الوطنية والانتماء العربي على أعواد المشانق في عهد جمال باشا السفاح مع اقتراب نهاية الاستعمار التركي ليحل محله الاستعمار الفرنسي…
وبعد مسلسل من الاغتيالات التي استهدفت الصحافيين في العهد الاستقلالي لعل أولهم الشهيد نسيب المتني، عشية انتهاء ولاية الرئيس الراحل كميل شمعون، وبعده الشهيد كامل مروة في أواخر عهد الرئيس شهاب، جاءت الحرب الأهلية فسقطت أقلام كثيرة بينها رياض طه وسليم اللوزي وآخرون…
.. ها هي سنة ,2005 إذا ما اعتبرنا عيد الشهداء عموماً وشهداء الصحافة خصوصاً نقطة البداية والختام، تنطوي ثقيلة الوطأة، تجللها دماء شهداء الرأي، شهداء الكلمة والفكرة والموقف، شهداء الحرية.
.. وها إن قائمة الشرف قد استطالت بعدما انضمت إليها كوكبة أخرى من الأقلام أولها سمير قصير والثاني فيها جورج حاوي والثالث جبران تويني، (دون أن ننسى الشهيدة الحية مي شدياق..).
وبديهي أن من يطاله الاستشهاد يتحوّل من صاحب وجهة نظر أو صاحب رأي قد يكون مختلفاً عليه ومن حوّله في حياته إلى رمز للجميع، من كان يقول قوله ومن كان يعارضه، إذ يرفعه الدم المقدس المراق غيلة إلى مرتبة لا يطاولها الاختلاف، ويستقر في الوجدان شهيداً للوطن جميعاً ولحرية الرأي كقضية يلتقي في أفيائها الناس كلهم.
على أن ما تواجهه الصحافة خصوصاً (والإعلام عموماً) يبدو أخطر من فجيعتها ببعض أعلامها المميزين: إنها مهددة بأن تكون أم الشهداء ، وبأن يكون الإعلام عموماً الشهيد الأعظم في هذا الزمن الأسود.
إن الأحوال السائدة في لبنان، اليوم، بمعزل عن الحصيلة المفجعة للعصر السوري أو ما يسمى النظام الأمني اللبناني السوري المشترك لا تبشّر بكثير من الأمان والاستقرار والدوام للإعلام، فضلاً عن الازدهار وتحقيق الأحلام التي كانت تخفق بها الأفئدة إلى ما قبل عهد قريب.
إن مخاطر الانقسام الأهلي، وتفسخ المجتمع بالمذهبية، وانشطار المواطن بين مبادئه وغرائزه، وافتقاد الأمان إلا في تأكيد الولاء للطائفة، أو لمن يمثلها…
إن تهافت العقائد والأفكار والمبادئ التي كانت الإطار الديموقراطي الطبيعي للاختلاف الذي من شأنه أن يصحح الاعوجاج ويوقف الغلط، ويمكِّن للدولة باعتبارها حامية المجتمع، حيويته وحريته الفكرية وأمنه…
إن الشروخ التي أصابت وحدة الوطن أرضاً وشعباً، نتيجة الخلافات التي ترفع الشعار السياسي فيما هي تستبطن الطائفية والمذهبية…
إن الانعطافات السياسية الحادة، على المستوى الرسمي، التي تكاد تنقل لبنان من موقعه الطبيعي إلى موقع آخر لا يوفر له الازدهار والأمن والسلامة بل يفرض عليه قدراً من الهجانة التي تفصله عن محيطه دون أن توفر له الحماية في موقع جديد لا يمكن أن يستقر فيه لأنه مخالف لطبيعته…
وطليعة الشهداء في مثل هذه التحولات والانحرافات والضياع وافتقاد الأصالة ورسوخ الهوية هي: الإعلام.
ليس الخوف من الاغتيال هو ما سيفقد الإعلام، عموماً، والصحافة خصوصاً، الدور وشرف مهمة نشر الوعي وإطلاق الحوار وفتح باب النقاش حول المسائل المختلف عليها جميعاً، بغير قيد.
إنما هو الخوف من تحويل الإعلام إلى أداة في حرب تدمير المواطن والوطن ودولته المتهالكة…
إنما هو الخوف من أن تجتاح رياح السموم التقسيمية، أو عواصف الفتن الطائفية والمذهبية، والتي تتبدى الآن كأنها طريق اللمعان السريع لوجاهات السياسة بمعناها الرديء.
إن الإعلام مهدد في مصيره كنتيجة مباشرة لتفسيخ المجتمع، جهات ومناطق وطوائف ومذاهب، وأكثريات أقلوية وأقليات أكثرية…
إن الإعلام هو الشهيد المقبل، واستشهاده لن يكون بشارة خير لهذا الوطن المهدد بالتمزق ولدولته التي يصدعها أصحابها وأقطابها والزعامات، قديمها والمستحدث.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان