تجاوز النقاش حول الأزمة الاقتصادية والتخوف من تفجراتها الاجتماعية، الحكومة بكل ألسنتها الذربة، وتطميناتها التي تختلط فيها التمنيات مع المبالغات كالرهان على شهر التسوق ودبكات »عيش لبنان« وأراكيل الجميلات من صبايانا والكوفيات في بعض الفنادق والمطاعم، فضلاً عن حكايات الخصخصة التي سنشهد فصولها المبكيات المضحكات قريباً، و»مؤتمر باريس 2« الذي بات مثل »غودو« يبشّر المعنيون بقدومه ثم لا يأتي ويبقى الأمل معلقاً على أنه لا بد آت، ذات يوم!
نزل النقاش إلى الشارع، كما في »التظاهرة الحمراء«، أمس الأول،
وصار النقاش محوراً جديداً لنمط مختلف من العمل السياسي، مرتكزه الأساسي اقتصادي، كما تبدى في الندوة التي عقدتها حركة التجدد الديموقراطي، أمس، بمشاركة حشد من الخبراء والمهتمين والمعنيين بقدرة اللبنانيين على مواجهة أعباء حياتهم وهم مثقلون بعبء الدين العام وفوائده التي تكاد تلتهم ما تبقى من اطمئنانهم إلى مستقبلهم في وطنهم.
وكان منطقياً في مناخ كهذا أن تعلو همسات »المبشرين« بالانهيار، وأن ينتقلوا من إطلاق التكهنات إلى تحديد المواعيد: »لن نصمد أبعد من حزيران«!..
بالمقابل تبدى أكثر فأكثر ارتباك الحكم، وصار اللجوء إلى الثرثرة الدفاعية مواكباً للتدابير التي يتخذ معظمها دون إعداد كاف، أو بطريقة مرتجلة، فلا تحل الأزمة بل هي تلتهم ما تبقى من الثقة في قدرة الحكومة على مواجهة المأزق ومن ثم الخروج منه. فضريبة القيمة المضافة أساءت إلى قدرة الحكم على توفير الحلول الجدية، وأبعدت عنه جمهوراً واسعاً من الذين كانوا ما زالوا يأملون بأن يخرج من كمه، ذات لحظة، مفاجآت مفرحة، وزادت أعداد اليائسين من توفر مخرج، لتزيد من ثم عدد الباحثين عن فرصة سفر بأي ثمن وإلى أي مكان… وفي الوقت نفسه فإن الكثرة الغالبة من المواطنين لا تعرف بعد متى وأين وكيف وبأي حد يتوجب عليهم أن يدفعوا هذه الضريبة الجديدة، ولمن يذهب مردودها في ظل التطبيق العشوائي والاستنسابي والذي يستعصي على الرقابة والضبط، ناهيك بأن المردود النهائي للضريبة، في أحسن حالات تطبيقها، لا يغطي أكثر من قيمة الفوائد على الدين العام في 55 يوماً فقط لا غير.
وبمعزل عن حجم »النزول« بالأزمة إلى الشارع، وهوية من أنزله، فإن هذا التطور سيكون له ما بعده قطعاً، وستضطر قوى أخرى تحتسب الآن في خانة الموالاة سياسياً إلى دفع تهمة »خيانة طبقتها« أو ناسها، عن نفسها والنزول، مما سيتسبب في انهيار بعض المؤسسات النقابية، وبالتالي في انكشاف خاصرة الحكومة وتعاظم الحرج الذي يستشعره بعض أطرافها من ممثلي »القوى الشعبية« مما سيدفعهم إما إلى المزايدة داخل الحكومة بما يفرط عقدها، وإما إلى تحريضها على المزيد من الحلول الوسط التي تزيد من الأعباء على الخزينة العامة من دون أن توفر أي حل جدي للأزمة الاقتصادية الاجتماعية… بل لعلها قد تتسبب في زيادة معدلات خدمة الدين العام!
ومن الضروري التنبّه إلى ما يسبق القمة العربية وما قد يرافقها من تعبيرات سياسية عن حجم الأزمة وعن تهاوي الحلول المقترحة دون التخفيف منها، فضلاً عما قد يلجأ إليه »المعارضون« التقليديون في مجال الإفادة من هذا المناخ لتأجيج النقاش داخل دوائر الحكم أو حتى في الشارع.
طبعاً لا تملك الحكومة حلولاً سحرية، ولا أحد يطالبها بمثل تلك الحلول، لكن الحكومة تفقد مع كل ضريبة جديدة ومع كل إرجاء لتنفيذ بند ممّا تسميه »علاجها« للأزمة بعض مصداقيتها.
والطريف أن المعارضين لا يستطيعون أن يربحوا كل ما تخسره الحكومة، وبالمقابل فإن الحكومة التي عجزت عن »فرط« المعارضين ستجد نفسها أمام قوى اعتراض جديدة تتجاوزها كما تتجاوز معارضيها التقليديين،
لقد نزلت الأزمة إلى الشارع، والنزول الأول ليس معياراً لما قد يكون عليه النزول الثاني والثالث الخ.
وفي أية مراجعة لتدابيرها فلا بد أن تأخذ الحكومة هذه الحقيقة في الاعتبار، حتى لو كانت مطمئنة إلى أن التجربة الأرجنتينية لا يمكن تكرارها في لبنان، كما أن تجربة إحراق حكومة عمر كرامي غير قابلة للتكرار في الظروف الراهنة، لمليون سبب غير اقتصادي.
غير أن الأزمة ستستولد وسائل تعبيرها الخاصة من ضمن ظروف لبنان الخاصة، إذا لم يتم التعامل معها بطريقة أكثر جدية وأكثر احتراماً للأرقام، ومن ثم لعقول المواطنين الذين يتوجب عليهم وحدهم في النهاية أن يدفعوا الدين وفوائده بالإخفاقات الحكومية في علاجه.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان