ليست أفغانستان وحدها تحت حصار الموت، بالقصف أو بالجوع أو بالحرب الأهلية الجاري التخطيط لها، أو بهذه جميعاً.
إن العالم كله يخضع الآن لحصار أميركي يضيِّق على دوله ويبتزها، في السياسة كما في الاقتصاد وفي الأمن، ويكاد يجبرها على إهمال شؤونها جميعاً والانخراط في هذه الحرب المفتوحة لاسترداد الهيبة التي ضربها الإعصار فتهاوت ولا بد من إعادة توكيدها بالهيمنة المطلقة على كل أسباب الحياة وفي أربع رياح الأرض.
قسمت الولايات المتحدة عالم القرن الحادي والعشرين قسمين محددين: حلفاء أكيدون ومعهم حلفاء محتملون ولكنهم في »المطهر« الآن لإثبات ولائهم، أما القسم الثاني فمُدان حتى تثبت براءته من تهم تمتد من دينه إلى ثقافته فإلى نمط حياته ومصادر معاشه ومدى التزام حكومته بموجبات الولاء وتوكيد براءتها ولو بإدانة شعبها في ماضيه وحاضره.
لا مجال للحياد، ولا مجال للإفلات من قبضة المحقق الأميركي شرس الطباع، الآن، والمستفز، والمطالب بتعويض الاقتصاد الأميركي خسائره الفادحة وربحه الفائت، بإخضاع العالم كله لآليات جديدة للسوق بحيث لا يبقى »دولار« واحد خارج السيطرة والتحقق من مصادره وعن مآله وأين يستقر في نهاية المطاف.
وإذا ما اتخذنا من لبنان مثالاً فلسوف نجد فيه »متَّهماً نموذجياً«، ليس لأنه »أخطر« من غيره، ولكن لأنه »مفتوح« ويمكن متابعة ما يجري له وما يجري فيه، في حين تتكتم الدول الأخرى على ما يُطلب منها حرصاً على »المقام« أو خوفاً من العواقب إذا ما عرف مواطنوها مدى الإذلال الذي يُفرض على بلادهم ثمناً »لبراءة« ممّا لا علاقة لها به.
بغض النظر عن المجاملات فإن نظرات من الشك والاسترابة تطارد مؤسسة الحكم في لبنان، وإن اتخذت حتى الساعة شكل المطالبات الملحة لمؤسسة القضاء فيه ولأجهزته الأمنية ولبيوتاته المالية وفي طليعتها المصرف المركزي، بتقديم »إيضاحات« أو »معلومات« أو »أدلة حاسمة على عدم التورط« في ما تراه واشنطن مخالفاً لقانون الطوارئ الذي فرضته الآن على العالم بذريعة أسامة بن لادن وتنظيمه »القاعدة« وحماته من »طالبان« الحاكمين في أفغانستان.
عشرات الملفات بمئات الأسماء لمتَّهمين مفترضين في جرائم عفا عليها الزمن، ومعظمها وقعت في الحرب الحروب الأهلية العربية الدولية التي كان الأميركيون بين أطرافها المباشرين، سياسياً وعسكرياً ببعض أسطولهم وبمئات من جنود المارينز، فضلاً عن نفوذهم الذي لا ينكره حتى المكابرون!
تحقيقات حول أموال ومتمولين تهدد قانون السرية المصرفية، وتزيد من الشلل في الحركة الاقتصادية، وأسئلة واستفسارات عن مبيضي أموال وعن مهربين وعن شبكات لتجارة المخدرات وألعاب القمار والدعارة رأسها، غالباً، في الولايات المتحدة الأميركية، وبين المتهمين من كانوا معروفين بأنهم على صلة مباشرة مع وكالة المخابرات المركزية الأميركية.
الأنتربول يستخرج من خزائنه ملفات منسية، فينفض عنها الغبار، ويبعث بها بنسخ جديدة (!) منها إلى الدول، ملقياً ظلالاً من الشك والشبهات على منظمات وهيئات (رسمية أحياناً) وعلى جماعات وأفراد بينهم من توفاه الله، وبينها ما اندثر أو بدلت »صورتها« الأولى أو انخرطت في عمل سياسي شرعي ومشروع وقطعت صلتها بأنماط من النشاط فرضتها الحرب وبعض موجباتها غير المستحبة أو التي استدرجها رد فعل عصبي على سياسة خاطئة غالباً ما كانت موجهة استجابة لضغوط أميركية.
ثمة دول متهمة بكليتها، أي بنظامها وشعبها رجالاً ونساءً وأطفالاً يموتون من نقص التغذية أو نقص الدواء والعلاج، كالعراق،
وثمة دول متهمة أو مشكوك في »ولائها« كسوريا، لأنها أصرت وتصر على ضرورة التمييز بين الإرهاب، المرفوض والمُدان، وبين المقاومة الوطنية المشروعة للاحتلال ولإرهاب الدولة كما في حال المواجهة المفتوحة بين شعب فلسطين وبين إسرائيل التي تغتال مناضليه يومياً وتقتل أطفاله وتدمر بيوته وتنكر عليه حقه في أرضه.
وثمة دول (عربية أيضاً) متهمة بالمسؤولية عن هذا الوضع في أفغانستان، وأسامة بن لادن من ضمنه، مع أنها كانت على مدى خمس عشرة سنة أو يزيد تنفذ طلبات أميركية، لتحقيق سياسات أميركية وبمعاونة أجهزة رسمية أميركية، سواء في باكستان أو في أفغانستان.
وليست مصادفة أن دولتين عربيتين فقط كانتا معترفتين »بحكومة طالبان«، هما السعودية والإمارات، فضلاً عن باكستان… وليس سراً أنهما لم تنشئا هذه العلاقة في غفلة عن واشنطن أو بالتضاد معها أو نكاية بها وتشجيعاً »لوليدها« الذي سيرهبها غداً، لأسباب لا يعرفها غيرها!
أكثر من هذا: يفرض على دول (عربية) سبق أن قاتلها »الإرهابيون« وقتلوا بعض مسؤوليها، وبعض زوارها، مثل مصر، أن تقدم أدلة جديدة على »ولائها« بإعادة محاكمة وإعادة إعدام (؟!) مَن أمسكت بهم من أنصار أسامة بن لادن أو أيمن الظواهري، وأن تكف عن مطالبتها بمؤتمر دولي لمكافحة الإرهاب شرط تحديده بوضوح لتمييزه عن المقاومة الوطنية المشروعة (وفلسطين هي، بعد لبنان، النموذج الصارخ دمها في البرية كضحية لإرهاب الدولة الإسرائيلية).
قبل هذا وبعد هذا فإن على الدول العربية والإسلامية بأن تستحصل من »مفتي الديار الأميركية« على شهادة بصحة إسلامها، وبراءة هذا »الإسلام« من شبهة الإرهاب!
لقد ظل »الإرهاب الإسلامي« أميركياً بالنشأة والرعاية والتمويل وتحديد الأهداف، حتى لحظة انقلابه على مَن وظفوه لضرب الحركات الوطنية والقومية، فضلاً عن الشيوعية الدولية، وأفغانستان الشاهد والشهيد.
والآن، وقد جاء زمن الحساب، فإن ضحايا هذا الإرهاب الإسلامي الأميركي يوضعون في قفص الاتهام، ويطلب إليهم أن يثبتوا »براءتهم« من بن لادن وإسلامه.
فإسلام المؤمنين الطبيعيين موضع نظر،
أما إسلام مناصري »حزب الله« و»حماس« و»الجهاد الإسلامي« و»فتح« فدليل إثبات على الضلوع في عمليات بن لادن الذي كان وما زال يناصبهم العداء… أو أنه لا يقر »إسلامهم« ولم يسبق ان مد يده إليهم بالعون، ولا اعترف »بجهادهم« أو شارك فيه.
لكأنما المعيار: مَن يقاتل إسرائيل فإسلامه إرهابي، ومَن يصالحها فإسلامه صحيح ومقبول و»شرعي« وهو بريء من تهمة الإرهاب!
الأخطر أن الولايات المتحدة وعبر حصارها المسلمين بالاتهامات تبث الفتنة بينهم، وتعيد إلى التداول أو تشجع بعض المتفقهين على إعادة طرح ما يفرق صفوفهم ليس فقط بين سنة متشددين وسنة معتدلين بل سنة معتدلين وشيعة متطرفين، بما ينقل المشكلة إلى صفوفهم… في قفص الاتهام!
إذن فالعرب مُدانون إلى أن يثبتوا براءتهم من مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وأي احتلال آخر، قائم أو مقبل،
والمسلمون مُدانون إلى أن يقتتلوا في ما بينهم حول أي إسلام هو الصحيح، بشهادة البنتاغون!
وفي هذه الأثناء عليك أن تجلس هادئاً لتتفرج على »حرب الجزيرة«، وأن تنتقل من تهديدات جورج بوش وجنرالاته وأساطيله التي تحاصر الكون وترمي حممها الحارقة والقاتلة أسباب الحياة على أفغانستان المظلومة، الى تهديدات أسامة بن لادن ومن معه التي تبرر هذه الحرب المفتوحة بمدى الكون والتي تجعلك في موقع الضحية التالية، بغض النظر عن موقعك من »البطلين« المتكاملين!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان