أعترف، وأنا أحد الذين قضوا سنوات غير قليلة يهتمون بالشأن العربي في عمومياته كما في تفاصيله، بأنني أجد صعوبة في تحديد خطوط استرشاديه تقودني للإجابة على السؤال، إلى أين من هنا ذاهبون نحن العرب. لا يخالجني شك في أن بعض العرب لا يذهبون بإرادتهم إلى مكان في المستقبل. نادرا ما فعلوا. عاشوا ويعيشون في انتظار من ينقلهم إلى المستقبل، هم دائما في انتظار من يرسم لهم خرائطهم بعد أن يقرر لنفسه موقعا فيها. أعرف أن أحد أسباب الصعوبة التي تواجهني، وكثيرين غيري، هو أن واقعا جديدا في الإقليم يتطور متسارعا وفي اتجاهات عديدة ولكن بخطوات ثابتة، وبنشأته المترددة وبالخطوات التي خطاها يطرح معضلات عويصة.
***
انتهت إسرائيل قبل أسبوع من مناورات عسكرية أجرتها على مقربة من لبنان قيل عنها إنها الأطول والأهم في تاريخ التدريبات الإسرائيلية. انعقاد هذه المناورات وبهذا الحجم والأعداد يعني بالنسبة لشخص مهتم بخطوط وتفاصيل واقع جديد في الإقليم أن إسرائيل سوف تركز على جانب تراه حيويا لها ولمستقبلها من بين جوانب عديدة لواقع إقليمي جديد. لا أظن أن أحدا من المراقبين المخضرمين سوف يختلف مع رؤية إسرائيل لهذا الجانب من الواقع الناشئ في الإقليم. تقول مؤشرات غير قليلة العدد والأهمية إن قوات حزب الله “ما بعد الحرب السورية” تختلف اختلافا مهما عن حال القوات التي تقرر ذهابها إلى سوريا قبل ست سنوات. تعود قوات حزب الله من سوريا حاملة رصيدا معتبرا من الأسلحة، وأكثرها متقدم تقنيا، وحائزة على تجربة فريدة في حرب طويلة في أراضي متباينة التضاريس وبين سكان مختلفي المذاهب والطوائف. تدربت قتاليا واستراتيجيا خلال هذه السنوات بكثافة لم تتح لها خلال معظم سنوات المقاومة بما فيها مرحلة التصدي للعدوان الإسرائيلي في 2006. تدربت وتدرب الحزب أيضا سياسيا على صعيدين: صعيد التعاون أو النزاع الداخلي في لبنان في شؤون إدارة الدولة في وقت أزمة وحرب دائرة على الحدود وأحيانا مخترقة لها، وصعيد التفاوض المباشر مع قوى دولية كبيرة وعقد المعاهدات والاتفاقات وتبادل النصائح والصفقات.
هكذا حزب مزودا بهذه القوة العسكرية يستطيع الآن أن يركز جل اهتمامه وجهوده على الساحة اللبنانية الداخلية. يستطيع أيضا وفي الوقت نفسه إيلاء الجبهة اللبنانية مع إسرائيل أولوية نشاطه. يستطيع ثالثا التأثير وبفاعلية في معادلات توازن القوى في الإقليم، سواء ما تعلق بالتوازنات بين دول الجوار أو ما تعلق بتوازناتها مع القوة العربية مجتمعة أو منفردة أو ما تعلق بتوازنات القوة بين الدول العربية، علما بأنني أعتقد أنه ساهم فعلا في الانتهاء من حسم بعض هذه التوازنات لصالحه وصالح حلفائه في الإقليم وخارجه. بمعنى آخر أتصور أن الحزب لا بد وقد ترك وراءه في ساحات معاركه وقاعات التفاوض بصمات تثبت أنه أحد أهم القوى العربية التي ساهمت في وضع بعض أسس ما يمكن أن يقوم عليه واقع إقليمي جديد. أعتقد أخيرا أن إسرائيل لن يهدأ لها بال قبل أن تتمكن من العثور على معادلة جديدة للقوة تحفظ لها هيمنتها في الإقليم، وتضمن لها الفوز في السباق على النصيب الأكبرمن أنصبة القوة والنفوذ في الشرق الأوسط.
***
منذ أن سمعت السنيور دي ميستورا، ممثل الأمم المتحدة في الأزمة السورية، يخاطب مستمعيه متهما إياهم بالفشل قائلا إنه على المعارضة السورية قبول أنها لم تنتصر في الحرب الدائرة بينها وبين النظام. وأنا أسأل كل من أعرفه مهموما بالأزمة وملحقاتها، من كان يقصد السيد دي ميستورا بالتحديد، هل كان يقصد كل الحاضرين أم قطاعا كبيرا منهم؟ هل كان يقصد أطرافا غائبة جندت بعض الحاضرين ودعمتهم ومولت أنشطتهم أو خططت لهم وقادتهم فانتهت بهم إلى هذا الفشل؟ هل حصل السيد ممثل الأمين العام والأمم المتحدة على تفويض من رئيسه المباشر، وأقصد السيد جوتيريس الأمين العام أو السيد فيلتمان مدير الدائرة السياسية في المنظمة الدولية، ليصدر جهرا حكما نهائيا بفشل جسيم حققه هؤلاء الناس الجالسين في حضرته ومنتظرين ما يعلنه من خطوات لإنقاذ ماء وفير يقطر خجلا من وجوه عربية كثيرة داخل القاعة وخارجها؟ أسأل وأسأل ولكن لا يفوتني أن أسال السيد الممثل الدولي لماذا يعتبر نفسه غير مسؤول عن استمرار حرب عبثية. لماذا فشل في وقفها في وقت مبكر، هذه الحرب التي توقفت في النهاية أو هي الآن في طريقها لتتوقف، ولكن بإرادة وتدخل من خارج العملية الأممية والمهمة التي كلف بإنجازها الممثل الدولي.
***
تباينت البيانات عن قواعد عسكرية روسية تقام في سوريا بالاتفاق مع حكومة دمشق، وأن قاعدة على الأقل باقية على الأراضي السورية لخمسين عام. أتصور أنه في الظروف الراهنة لن نعرف عن هذه القواعد الروسية أو الأمريكية الشيء الكثير قبل أن يستعيد النظام في دمشق بعض الصدقية في أهليته الفعلية وليست القانونية. إلا أننا لا نستطيع تجاهل حالة الوفاق الاستراتيجي “الإقليمي الطابع” حتى الآن بين المؤسستين العسكريتين الأمريكية والروسية. نتج هذا الوفاق فيما يبدو عن حال الاسترخاء السياسي والعسكري الذي مارسته إدارة أوباما في الشرق الأوسط وحال الرغبة البوتينية الشرهة للتوسع وزيادة نفوذ روسيا في الإقليم. نتج أيضا عن انسجام أهداف الدولتين في حربهما المحدودة ضد الإرهاب في سوريا والعراق، وعن عجز الولايات المتحدة عن تحقيق تقدم في الأزمة السورية بسبب خلافات إدارة الرئيس أوباما مع دول الخليج العربية المشتركة في الحرب ضد الرئيس الأسد والممولة لبعض الميليشيات التي أعتقد الروس أنها متطرفة أو إرهابية.
قواعد أمريكية وقواعد روسية وربما تسهيلات أخرى وقواعد لفرنسا وإيران وتركيا تهيمن بعضها على ممرات تجارة وهجرة وتهريب أسلحة تربط بين دول في وسط أسيا وشرقها ودول جوار وبين شواطئ المتوسط. لكل دولة حلم تتمنى تحقيقه قبل أن تستقر التسويات وتقنن في نيويورك أو غيرها. الصين تريد الاطمئنان على أمن محطات حزامها وطريقها للحرير. كذلك سيكون لإيران ممر أو ممرات ولتركيا قواعد انطلاق وهيمنة وملاحقة ولأمريكا وروسيا وفرنسا قواعد ارتكاز لحماية مسارح النفط ومسارات الغاز والدفاع عن النظام الحاكم في دمشق. هنا في سوريا سوف يصدر الإعلان في أقرب فرصة عن هوية المشرق.
أسأل وألح في طلب إجابة عاجلة من مجلس جامعة الدول العربية، باعتبارأنه المسؤول بقرارات اتخذها عن الكثير من المآسي التي لحقت بالأمة العربية في السنوات الأخيرة، وإجابة من كبار المسؤولين عن العمل العربي المشترك باعتبار أنهم تعهدوا إصلاح الجامعة وتحديث أساليب أدائها وتحرير أجهزتها من هيمنة المندوبين العرب. أسألهم ماذا هم فاعلون بالمشرق العربي إذا فرض الآخرون عليه تغيير هويته. ما بدائلهم؟
مطلوب أيضا من الجامعة العربية في هذه الآونة المهمة من تاريخ الإقليم الاعتذار لكافة الشعوب العربية عما تسببت فيه من كوارث إنسانية نتيجة قرارات صدرت تحت الضغط. مطلوب منها إن لم يكن لديها مشروع لنظام إقليمي جديد يحفظ للمشرق هويته ويستعيد للأمة مكانتها أن تترك السياسة وتتفرغ لأداء خدمات أخرى تنفع شعوب الإقليم.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق