نشرت في “السفير” 2 آب 2006
تتبدى المفارقة موجعة حتى الجرح بين حجم التأييد الدولي لهذه الحرب الإسرائيلية بقرارها الأميركي المعلن على لبنان، والتي ندخل جحيم يومها الثاني والعشرين، وبين الغياب العربي المفجع والذي لا يمكن التعامل معه ببراءة تستند إلى واقع العجز، بل لا بد من الاشتباه بالتواطؤ ولو متستراً ببيانات الشجب والاستنكار، وهي قليلة وركيكة النصوص..
ولعل ما يؤكد هذا الاشتباه ويفضح التواطؤ “اطمئنان” الإدارة الأميركية إلى موافقة عربية ضمنية على قرار الحرب التي احتفظت بشرف إعلانها كما مدت فترة السماح بتزخيمها، السيدة كوندليسا رايس ومن مكتب وزير الدفاع الإسرائيلي في القدس المحتلة، مباشرة.
هي حرب إسرائيلية بقرار أميركي له هدف معلن: استيلاد الشرق الأوسط الجديد.
ويفترض أن هذا الهدف المعلن يمس الدول العربية جميعاً، مشرقاً ومغرباً، مَن كان مِن مسؤوليها في زيارة واشنطن قبل أيام، لتطمين الذات، أو زارها لاستعدائها على “خصومه” من أهله، أو مَن راسلها أو بعث إليها بمن يشجعها على دعم إسرائيل للتخلص من هؤلاء الفتية المتطرفين والمشاغبين الذين يلعبون لعبة الحرب بغير دراية!
مع ذلك، فقد استقبلت بيروت العديد من المسؤولين الغربيين، أبرزهم السيدة رايس التي أبلغتنا الإنذار بتدمير لبنان تدميراً كاملاً، وبينهم رئيس الحكومة الفرنسية ووزير خارجيتها الذي جاء ثلاث مرات، والبعثة الخاصة التي أوفدتها الأمم المتحدة، والمسؤول الأعلى لخارجية الاتحاد الأوروبي، والبعثة الأوروبية التي تضم ثلاثة من وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي وأخيراً وليس آخراً وزير خارجية جمهورية إيران الإسلامية.
لكن أحداً من المسؤولين العرب لم يتفضل على لبنان بزيارة تضامن أو تعاطف أو تفقّد… علماً بأن إسرائيل قد سمحت لطائرات الموفدين الأجانب، كما لطائرات المساعدات العربية، بأن تهبط في مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت، أو بمطارات الحوامات التي أقيمت خلسة، وأشهرها الذي في عوكر.
ومع الترحيب بالزيارة الموعودة اليوم لوزير خارجية مصر العربية، فلا بد من التنويه بأنها الأولى، مع التمني بألا تكون آخر زيارة لمسؤول عربي، لا سيما مع “الوعد” الإسرائيلي بألا يطل الصبح على لبنان إلا وقد انفتحت عليه أبواب جهنم، لتكمل تدميره ساحلاً وجبلاً، سهلاً وبحراً، جنوباً وشرقاً وشمالاً، بمرافقه المتبقية جميعاً، ومؤسساته التي أمكن استنقاذها حتى الآن كالمستشفيات ودور رعاية العجزة!
وتقضي أصول المصارحة أن نجهر بعتاب الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، الذي نقدّر مواقفه القومية، وشجاعته الشخصية التي دفعته لأن ينعى “عملية السلام”، الميتة منذ زمن بعيد، ومراراته التي تتكاثف يومياً مع شعوره بالخذلان نتيجة لتخلي “الدول” العربية عن أبسط الواجبات التي تبرّر انتماءها للجامعة، بل وتبرّر وجود هذه المؤسسة العريقة المعطلة قصداً، لمحو آثار أي جهد عربي مشترك..
كان يكفي لبنان منه، بالذات، أن يأتيه في زيارة تفقّد واطمئنان إلى ما تبقى من البلد الذي يحب ومَن تبقّى فيه… لكن ظروفه أقسى من أن تعالج بالعتاب.
المهم، إن لبنان يتقبّل منذ أيام قوافل المساعدات الإنسانية التي تتدفق عليه من الدول العربية (فضلاً عن الأجنبية) بكثير من الشكر والامتنان، لا يفوقهما إلا شعوره الممض بالحزن والوجع كون هذه “الدول” قد حوّلت ذاتها إلى ما يشبه مؤسسات الإغاثة والنجدة السريعة كالصليب الأحمر الدولي أو الهلال الأحمر (الإسلامي) أو كاريتاس أو أطباء بلا حدود..
بل إن بعض بعثات الإغاثة التي أوفدتها هذه “الدول” إلى جهات منكوبة بالزلازل أو بالطوفان كان يرأسها أمير أو وزير، إلا لبنان..
وعلى احتياج مئات الألوف من اللبنانيين الذين شرّدتهم الحرب الإسرائيلية من ديارهم وبيوتهم بعدما دمّرتها وقطعت أوصالها وعطلت أسباب الحياة فيها، واستسهلت ارتكاب المذابح ضد المدنيين، بعدما أعجزتها مواجهة المجاهدين من رجال “حزب الله”، إلى المؤن والأسرّة النقالة والمعلبات والأمصال والأدوية إلخ.
.. إلا أن المواطن في لبنان كان يتمنى لو أن هذه الدول أكدت حضورها الفاعل، ودائماً في السياسة وليس في مواجهة إسرائيل بالقتال، لكانت أغنته عن “الصدقة”، وأغنت نفسها عن تأكيد غيابها الفاعل سياسياً بحضور مساعداتها الإنسانية التي “على ضرورتها” لا تشبع الشوق إلى الإحساس بصدق الأخوة، والحصانة التي يوفرها الانتماء، والكرامة التي شربنا حليبها مع العروبة.
أيها الإخوة العرب: نحن بخير، طمنونا عنكم!
نحن بخير، وعروبتنا بخير، وبدمائنا سنحفظ أيضاً عروبتكم، ولو برغم أنوف “دولكم”.. التي كلما تزايد عددها نقصت قيمتها.