صارت الهزيمة خبزنا اليومي، صارت كرويات صفراء تجري مجرى الدم في عروقنا، صارت بعض الهواء الذي نتنشقه ونعيش عليه،
تعودنا الهزيمة حتى أدمتنا وأدمناها، وهانت علينا نفوسنا والكرامات والعنفوان حتى لم يعد يهزنا حدث أو خبر.
رماد، رماد، رماد،
تفتح المذياع فينهال عليك الرماد بيدراً من الأسماء الباهتة التي لا تعطيها الألقاب المفخمة أي معنى، حتى إنها لم تعد تنفع في إثارة سخريتك، السخرية ذاتها تحتاج موضوعاً، فكيف تسخر بمن هو غير ذي موضوع؟!
تمسك بالجريدة فتجد كتلاً من الرماد، ومساحات من الكلمات الميتة، لا نبض فيها ولا روح، تمارين في الإنشاء، سبكها ركيك، حروفها مجلجلة الدوي لكنها بغير مضمون، تعاني من فقر في المعنى، بل هي غالباً ما تستخدم في غير موقعها ولغير معناها الأصلي وربما لنقيض معناها تماماً.
أما التلفزيون، حماك الله من آثامه، فيملأ عليك جو غرفتك رماداً، ويخترق برماد الصور ورماد التصريحات ورماد الأسماء صدرك وذهنك فلا تنتهي نشرة الأخبار إلا وأنت على وشك الإغماء قرفاً أو يأساً… أو إنك تستحيل، بدورك، رماداً يتوه في بحر الرماد الذي ينفثه في وجهك هذا الجهاز اللعين!
رماد في رماد في رماد، وحتى رد فعلك يظل في خانة الرماد! لقد استنزفت أعصابك، أفكارك، رؤيتك، قدرتك على التحليل والاستنتاج، واستنزفت عواطفك وحتى الغرائز فافتقدت قدرتك على الدهشة والتعجب ناهيك بالفرح والحزن والشعور بدفء الكلمات والمعاني واللفتات الحميمة.
لماذا هذه الكلمات السوداء في وصف الحالة الرمادية السائدة؟!
لقد ازدحمت علينا مجموعة من الصور والمناظر النافرة والمؤذية فاستفزت ما تبقى من العقل ومن المشاعر الطبيعية فكان لا بد من إطلاق صرخة ألم، من التعبير عن الوجع الممض الذي ألفناه حتى لم نعد نعرف كيف نعبر عنه، فما بالك بأن ننفضه عنا أو نعالجه طلباً لشقاء مستحيل؟!
….
لا سقف لارتفاع سعر صرف الدولار بالليرة اللبنانية، فأمس احترق سقف المئة وستين ليرة، وبعد فترة قد يتجاوز المئتي ليرة ولا رادع أو ضابط أو قدرة على الردع والضبط.
حتى هذه اللحظة ما تزال الغرائز الطائفية أقوى من الجوع، بدليل إن الفقراء ومحدودي الدخل وحتى متوسطي الدخل لم يتوحدوا ولم يتقاربوا ولم يتمكنوا من اختراق خطوط التماس بين الطوائف ليحموا حق أطفالهم في الحليب والدواء ورغيف الخبز،
صارت الطوائف قبوراً وصار أمراؤها حفاري قبور لأتباعهم وما زال الناس يتدافعون إلى الحفر بحماسة قل نظيرها في أوساط المنتحرين!
رماد، رماد، رماد،
من تراه يستولد العاصفة لتذري هذا الرماد المهيمن والمغطي على حقائق الحياة ومشاعر الناس الطبيعية؟!
من يحمي حق الإنسان في أن يحلم، في أن يحب، في أن يأخذ من الشمس قبساً يستضيء به ويتدفأ وينسج منه ثوب غده الأفضل؟!
من غير الإنسان ذاته يستطيع أن يرسم طريق الخلاص من الرماد وأهل الرماد وعصر الرماد؟!
فلا أعلام الآخرين تنفع في أشعارك بقيمة،
ولا الهرب من الأرض إلى السماء ينفع في حسم المسائل والمشكلات الناجمة عن سيادة مناخ الهزيمة و”قيمها”،
ولا السكوت عن القتلة والجناة يمكن أن يحمي حق الناس في الحياة وفي الوطن،
ولا الغرق في الرماد يمكن أن يؤدي إلى غير الاختناق بالرماد،
فلننفض عنا رماد الهزيمة،
فلننهض، ولنسحق الرماد والمنتفعين به جميعاً…..
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 7 تموز (يوليو) 1987