نفكر او لا نفكر، يكون فكرنا عقلانياً أو غير عقلاني، لكننا ندرك بالضرورة العالم إدراكاً يؤدي إلى مواقف سلبية أو إيجابية منه. نتخذ هذه المواقف بناء على إدراكنا لأنفسنا وطريقة عيشنا وكيف نريد ان نكون. العلاقة بيننا وبين العالم نقررها نحن كما يقررها الآخرون. تكون المساهمة في تقرير العلاقة بالعالم على قدر موازين القوى. لا نستطيع الزعم اننا نبادر في العلاقة بينما تقتصر العلاقة بالعالم على الاستيراد، حتى تصدير النفط الخام هو جزء من علاقة دونية مع العالم، لأنّ ذلك هو حصيلة ما يقرره العالم لنا.
الوعي بالعالم هو انعكاس لوعينا بأنفسنا. نرى العالم مؤامرة علينا عندما نكون ضعفاء، ونحن كذلك، فتتشكل العلاقات في ما بيننا على أساس علاقة الخارج بنا. تتطور العلاقات الاجتماعية والقوى القومية والاثنية عندنا بناء على ارادة او ارادات خارجية. ادراكنا للعالم ليس مسألة نقررها نحن في مواجهة مع أنفسنا وحسب. يتشكل هذا الادراك في إطار علاقة ما.
لا يقتصر وعينا بالعالم على ما نقرأه في كتب التاريخ والجغرافيا، ومما نلاحظه في رحلاتنا للخارج، حتى ولو اقمنا هناك سنوات عدة للدراسة او غيرها. يتقرر هذا الوعي بناء على علاقتنا بالسلطة، وبناء على علاقة السلطة بشعبها ومدى الشرعية التي تعتقد انها تتمتع بها. ليس صدفة ان بلداً عربياً يحيط نفسه بالحروب ويدعو رئيس الامبراطورية العالمية الى اجتماع لالقاء خطاب توجّه فيه الأوامر لرؤساء الدول العربية والاسلامية. المسألة تتعلق بالحفاظ على السلطة في داخل البلد صاحب الدعوة. وتتعلق ايضا بموازين القوى بين اطراف الحرب الاهلية العربية. الحرب العالمية على الارهاب معلنة منذ 2001، وكل نظام عربي ساهم في اسبابها ويحاول الآن التنصّل من ذلك. الدعوة للاعتدال تقابلها داخل كل قطر عربي موجة تطرف تمارسه السلطة ضد شعبها. ما ترتكبه المنظومة الحاكمة العربية ضد شعوبها سيدرجه التاريخ في سجل الجرائم ضد الانسانية.
ليس التناقض بين الاعتدال والتطرف. جميعهم متطرفون. التناقض هو بين العشوائية والعقلانية. تحكّم العشوائية في الوعي السائد هو انعكاس لعشوائية السلطة. الاستبداد سلوك عشوائي بالتعريف. طبيعة الاستبداد تفترض ممارسات لا تتقيد بالقانون، لا قانون الطبيعة ولا القانون الوضعي. لا يستثنى من ذلك دعاة تطبيق الشريعة في القانون. يريدون استثناء وجهات نظرهم من القانون، ووضع انفسهم فوق القانون. ليست الشريعة امراً الهياً الا عند صدورها في لحظة الوحي، تعيد وضعية موضوعة من قبل العقل البشري عند التطبيق.
عشوائية الفكر والممارسة هي في جوهر الوعي السائد لدينا. تلغي العشوائية العلاقات الضرورية بين الاسباب والنتائج. الاسباب تقررها ارادة عليا. لا روابط عندهم بين الاسباب والنتائج. الارادة العليا تقرر الاسباب والنتائج كلّا على حدة.
يعفي الوعي العشوائي الديني اصحابه من المسؤولية عن افعالهم طالما ان النتائج يقررها الغير، سواء السلطة الحاكمة او الارادة الخارجية، فلا طائل من تحمّل مسؤولية الاسباب. داعش واخواتها، القاعدة وأخواتها، تعبيرات عن وعي عشوائي.
انه الوعي العشوائي الذي نبت في احضان سلطات سياسية استبدادية محلية وعالمية. ومن معالم الاستبداد التبشير بالديمغرافية عند الآخرين وممارسة حكم الامر في الداخل، وقبول ممارسات نساء حكام العالم، في حين تطبق على النساء في الداخل قوانين أخرى. الدونية تجاه الغير مظهر للعشوائية.
عشوائية السياسة والفكر والوعي تمنع التراكم، تمنع التراكم السياسي، فيضطر المجتمع الى العودة الى الصفر بعد كل انقلاب، وربما بعد كل ثورة شعبية ودستور جديد بعد كل اسقاط نظام. انها تمنع التراكم الاقتصادي، وما يحصل في السنين السمان يتم استهلاكه في السنين العجاف. يمنع التراكم البيئي لينتقل المجتمع من اسلوب الزراعة الى رعاية المواشي. ويمنع التراكم الثقافي، فلا تجارب فكرية ومراكز بحث تؤسس لتقدم فكري ولحداثة تفجّر اوهام التقليد. يمنع التراكم التقني فتبنى مجتمعات ما قبل صناعية. يمنع التراكم الاجتماعي ليبقى المجتمع فاقد الهيبة وقاصرا عن بناء علاقات الافراد في سياقات فردية تتجاوز الانتخابات الاولية، مثل العائلة الموسعة والعشيرة والقبيلة وحتى الطائفة. يمنع التراكم العسكري ليكتفى بما لدينا، فلا يهزم كل عربي جندياً اسرائيلياً، بل ان الجيش الاسرائيلي يهزم كل الجيوش العربية.
تمنع العشوائية في السياسة والوعي بناء مجتمع متماسك قوامه العمل والانتاج. والحصيلة مجتمع مفكك متشكل من افراد لا روابط بينهم، وليست لديهم مرجعية الضمير الفردي ولا العمل الجماعي. سلفية تفرخ دواعش واخواتها والقاعدة واخواتها، سلفية ترتدي ثوب الاعتدال، وسلطات استبداد تدّعي صون مصلحة الشعب من الازل حتى الابد. “وممالك خير” تدّعي انتزاع الصراط المستقيم من خالق الكون. جميعها سلطات تزعم ان مهمتها الاساسية هي تأديب الشعب، بينما هي فاقدة الادب. انظمة لا قوام لها من دون التبعية للغير، تعيش على تلقّي هبة من السماء (الدين) وهبة من الارض (النفط).
انظمة تحول دون العمل وتراكم الانتاج وبناء مجتمع متماسك. كل فرد خلاصه مرهون باتّباع طقوس ورياضيات تشبه السلف الاوّل من دون ايمان حقيقي يربط النفس بالروح، والروح بالضمير والضمير مع الله.
يؤدي التشويش الى القمعية، فلا تدرك من انت ولا ضد من انت. يصير بعض منتقدي المنظومة السياسية العربية تابعين لها. الادهى من ذلك ان الايديولوجيا الدينية المحلية تبنّت تلقائياً تنظيمات متطرفة بعلمها او من دون علمها، لكن مسؤوليتها عما يحدث واضحة.
ان اعمال القتل التي يقوم بها انتحاريون، او عمليات الصدم بالسيارات والضرب بالشاكوش، لا تؤدي سوى الى نقل حالة من الهستيريا الى الغرب تشبه ما هو موجود عندنا. هي افعال عشوائية لا تحقق هدفاً سوى زرع الفوضى في الغرب. لماذا اذن؟ الجواب لا يكون الا بأن اثارة الفوضى في كل مكان هي المطلوب. كما ان الهدف هو خلق حالة من تشويش الوعي في كل مكان من الشرق والغرب. كل ذلك لا يدل الا علىى انكسار الوعي بما يؤدي الى انكسار الارادة، والتعويض عن ذلك بعمليات لا تؤدي اهدافاً الا الظهور على وسائل الاعلام. متاجرة بارواح الناس من اجل مكاسب دعائية.
بلغ الوعي حضيضه، وبذل الكثير من التفكير لمحاولة الوصول الى آليات تفكير هؤلاء. عمليات كثيرة تتوجها انتحاريات تنم عن يأس اصحابها من هذه الحياة.
ليس باليأس تبنى المجتمعات. اذا كان هؤلاء لا يملّون من العمل التراكمي للخروج من مآزق مجتمعاتنا فلا حاجة بنا اليهم. ما تحتاجه مجتمعاتنا هو المزيد من التفكير والعمل في البناء والانتاج واحراز قدر من التقدم وما يصاحبه من حداثة. مجتمعات تبني نفسها لا تقهر.
ينشر بالتزامن مع روسيا الآن
احمد
يونيو 24, 2017كلام جميل انيق، رائع في المضمون مع نفحات فلسفية عميقة المعنة سلسة العبارة، بوركت!
شحادة اليازجي
يونيو 24, 2017لله درك يا طلال سليمان, من يقرىء ما تكتبه يشعر وكإنه يسبح في محيط هائل من أفكار تتلاطم مع بعضها كي تصب في عقل القارىء كي تذيد من معرفته ووعيه!
كقارىء عادي أقول لك إن ما تطلبه من قارئك هو عير عادي, حجم المغلومات وترابطها مع بعضها يفوق ما يستطيع القارىء العادي من إستيعابه والإحاطة به.
بتواضع أقول لك أيها الشامل العظيم, خفف الوطىء ! عالج دائما” موضوع واحد في المقالة , وليس أكثر. ضمن هذا الموضوع نقاط محدودة يستطيع العقل دون جهد إستيعابها. وتذكر إنك تكتب لقراء وليس لعلماء !
جمال البرغوثي من بير زيت
يونيو 24, 2017يحكون في قريتنا عن أيام زمان عندما كانت الضباع تحكم الليل والتلال المجاورة والأدغال وتسيطر على الوديان…. كان الضبع لا يفترس الراعي وهو نائم بل كان يبول على رأسه أولا ثم يتحرش به حتى يستيقظ…. فإذا قام الراعي ورأى الضبع أمامه خُيّل اليه أن الضبع أبوه فيبدأ الضبع بالمشي ثم بالجري نحو جحره أوكهفه ومأمنه والراعي يركض وراءه يصرخ “إستنّاني يا بوي” حتى يدخل جحر الضبع وينتهي الأمر!
ولكن “سويلم” راعي “دار أبو شلّق” كان ذو حظ سعيد فما أن وصل صراخه في جوف الليل من ليالي تموز عام 1949 وأيام الحصاد ينادي أباه حتى فزعت القرية رجالا ونساء وأمسكوا بسويلم وضربوه بحجرفي مقدمة جمجمته فوعي سويلم وعاد الى رشده ولم يعد ضحية التشويش الذي كاد أن يودي به مؤونة أسبوع لقطيع من الضباع.
حكّام العرب أقل حظا من سويلم ويقفون الآن في الطابور أمام جحر من الضباع يتنافسون فيما بينهم من سيكون له شرف “فاتح الشهية وطبق المقبلات!”
من المعروف علميا أن “الأميجدلا” التي هي بحجم “حبة لوز” في الدماغ تسيطر على كل الدماغ في حالة الفزع الأكبروتتوقف عندها كل ملكات التفكير والتحليل ولا تترك للمرء أية خيارات إلا “غريزة البقاء.” إذا فتحت عينيك وذهبت للمطبخ لتناول شربة ماء فوقعت عيناك على قطعة حبل أو”بربيش مي” على أرض المطبخ فالأميجدلا تتحرك وتأخذ موقع القيادة أما بقية مراكزالدماغ فيتم تعطيلها تماما.
نحن تخطينا مرحلة التشويش وأصبحنا في قبضة “أميجدلا” قومية تحركنا فقط غريزة حب البقاء ولو على رمق الحياة نتعلق “بالقشّة” لا إرادة ولا وعي ولا قدرة على قراءة ما يجري ناهيك عما ينتظرنا في القريب أو البعيد وأصبحنا لا نفرق بين بول الضبع وبول البعير ولا بين الأب أو الأخ أو ابن العم وبين أي خنزير.
ابو أنور
يونيو 24, 2017السلام عليكم هل الأمن والاقتصاد المقبول في بلاد الغرب نتج عن فصل الدين عن الحكم